في هولندا، رجل عربيّ يُسنِد مقعد الدراجة الهوائية لزوجته المحجّبة، ليحفظ توازنها أثناء تعلمها قيادة الدراجة. مشهد عاديّ لدرجة، تتعجّب معها كيف أمكننا، في بقعة أخرى من العالم، ابتكار كلّ هذا الجدل والضجيج حياله. بداية من عدم استحباب منظر النساء، مؤخراتهن على مقاعدها الصغيرة، وأردافهن تصعد وتهبط على البدّالات، مرورًا بما قيل أنه ضررُ صحيّ على البنات، ووصولا -بالطبع- في أبدع تجلياتنا إلى طلب الفتوى الشرعيّة في أمرها. وإذا أردت أن تسترسل في الفكاهة، عليك فقط تذكّر أن هذا الرجل العربيّ نفسه، كان جزءًا أصيلًا من الجلبة نفسها، قبل أن تقوده قدماه إلى أوروبا. في فرنسا، صديق مقرّب، وهو سوريّ مهاجر، يسِرُ لي ما نصح به صاحبه المهاجر الجديد: “ما عاد ينفع، عليك أن تسايس امرأتك من الآن وصاعدًا.. تأتيها من تحت متودّدا، لا من فوق آمرًا”. يفسّر لي، كيف أن الرجال في مجتمعات المهاجرين يتهامسون الآن فيما بينهم ويتبادلون استراتيجيات جديدة أكثر نجاعة لحفظ مناطق نفوذهم، ضمن قواعد اللعبة الجديدة/ الأرض الجديدة. أشجّع صديقي وأحثه على مواصلة البوح، أكتم ابتسامة تشفٍ أنثوية بداخلي، بل وأظهر له شيء من التعاطف فيواصل متحدّثًا عن نفسه: “لقد تشاقيتُ كثيرًا في سوريا. أعترف. كنتُ أصغر وأوسم وأيسر حالًا، وأكثر عزوة ونفوذ. ولم يكن لها -زوجته- حيلة، سوى حماية أسرتها، بالبقاء”. ولأنني أبقى صامتة. يرتاح لقول: “لقد أخطأتُ في حقّها، كان عليّ أن أفقد هذا كلّه حتى أفهم، ليتها تدري أني تغيرت وتعود”. لا أقول له أنه ليس الوحيد، وأن حالة من الانفلات الروحيّ تعيشها الكثير من النساء المهاجرات، الشعور المفاجئ بالقوة، وبالمقدرة، والاستقلال، جعل جزءًا منهن يراجع خياراته السابقة، ويعيد تقييمها وفق الظروف الجديدة. كثيرات اخترن الانفصال والبدء من جديد، وكثيرات قررن مواصلة العيش ضمن مؤسسة الزواج أو العائلة ولكن وفق شروط داخلية جديدة.. . وفي السويد، ذاع خبر قيام عائلات عربية بإرسال بناتها في زيارات لبلادها الأم، ثم وبالاتفاق مع العشيرة هناك، يتم تمزيق جوازات سفر البنات ليبقين هناك ويتم تزويجهن، فلا يفلت عيارهن في الغربة. وذلك بعد أن يتبيّن لهم أن محاولات فرض، النظام الاجتماعي التقليدي الذي تربّوا عليه، في البلاد الشقراء حرب خاسرة، وأن الحلّ يكمن في استدراجهنّ نحو الأرض التي لا يزال يدور فيها الجدل حول قيادة البنات الدراجة الهوائية. أما في ألمانيا، وفي أعلى مراحل التناقض عبثية وهيستيرية وبشاعة، شاهدتُ كغيري البث المباشر للمهاجر الذي قتل زوجته السابقة وبث عملية القتل عبر فيسبوك. كان يمكن للجريمة أن تكون خبرًا، إلا أنه جعل منها مشهدًا عبر بثها مباشرة. وبثه للجريمة مباشرة هو فعل اغتراب كامل، لمجرم يبحث في الفضاء عن أرض لفعله الغريب. إذ لا يقوم مرتكب جريمة الشرف في بلادنا ببث فعلته هذه على الهواء مباشرة. لكن المهاجر القاتل، أراد في حالة هيستيرية أن يتصل بالمجتمع والمكان الذي يفهم فعلته هذه، وإن لم يشجعها، يبررها على أقلّ تقدير. عينة من صور يوميّة، لحالة من الغرابة والتناقض أحدثتها الهجرة العربية، التي ساقت مؤخرًا العوام لا النُخَب إلى الأراضي الشقراء. مشاهد تتفاوت بين مفرطة الكوميدية ومفرطة الدرامية، لأناس كابدوا ما كابدوا، ليصلوا بعائلاتهم أخيرًا، إلى ما ظنوا أنها بلاد الأحلام، حيث الرفاه والكرامة والأخضر الشاسع، متصورين أنهم يمكنهم العيش ضمن هذه المنظومة وفق قيمهم الاجتماعية السابقة، التي يعتزون بها بل ويعتقدون أن الله في عليائه ميزهم بها عن العالمين. ليجدوا أنفسهم أخيرًا يقفون حيث كل أساطير الشوارب وعنتريات المنظومة القيمية التقليدية السابقة، ليست سوى غبارًا تنفضه بسهولة الأنظمة في أوروبا، وتتغاضى عن شيء منه، فقط، من قبيل احترام الحريات الفرديّة، لكنها لا تتسامح أبدًا مع فرضه على الآخرين حتى وإن كان الآخرون ابنتك أو زوجتك أو اختك.
“لقد تشاقيتُ كثيرًا في سوريا. أعترف. كنتُ أصغر وأوسم وأيسر حالًا، وأكثر عزوة ونفوذ. ولم يكن لها -زوجته- حيلة، سوى حماية أسرتها، بالبقاء”. ولأنني أبقى صامتة. يرتاح لقول: “لقد أخطأتُ في حقّها، كان عليّ أن أفقد هذا كلّه حتى أفهم، ليتها تدري أني تغيرت وتعود”.
حالة من الانفلات الروحيّ تعيشها الكثير من النساء المهاجرات، الشعور المفاجئ بالقوة، وبالمقدرة، والاستقلال، جعل جزءًا منهن يراجع خياراته السابقة، ويعيد تقييمها وفق الظروف الجديدة.
وفي السويد، ذاع خبر قيام عائلات عربية بإرسال بناتها في زيارات لبلادها الأم، ثم وبالاتفاق مع العشيرة هناك، يتم تمزيق جوازات سفر البنات ليبقين هناك ويتم تزويجهن، فلا يفلت عيارهن في الغربة.
إذ لا يقوم مرتكب جريمة الشرف في بلادنا ببث فعلته هذه على الهواء مباشرة. لكن المهاجر القاتل، أراد في حالة هيستيرية أن يتصل بالمجتمع والمكان الذي يفهم فعلته هذه، وإن لم يشجعها، يبررها على أقلّ تقدير.وبمقابل موجات الهجرة هذه، وتشكّل تجمعات ومجتمعات داخل المجتمعات، فإن أوروبا تعمل بجدّ على تنفيذ برامج تدريب مكثفة للمهاجرين الذين يحملون ثقافات أخرى، عبر ما تسمى "دروس الاندماج"، والتي يتم فيها استعراض "القيم الأوروبية للحريات الفردية وحقوق المرأة فيها"، وهذه الدروس من التفصيل بأن تمر بقضايا مثل الاغتصاب الزوجي والحريات الجنسية والتنوع الجندري وحرية اختيار وممارسة الميل الجنسي سواء الغيري أو المثلي، وفي هذا الأمر، حدث أن استوقفتني سيدة عربية محافظة، بعد درس من "دروس الاندماج"، محيّية إياي على - ما فسرتها هي- بأنها نباهتي في مجاراة الأجانب، أو ممارسة ما يشبه التقية معهم، إذا أجبتُ سؤال المدرّسة لي: هل تقبلين العمل إلى جوار زميل/ة مثلي/ة؟ بنعم، أقبل. ولم أكن بأي حال، لا أجاري ولا أمارس تقيّة أو نفاق. كنت صادقة. لكنني لم أجادل السيدة في إطرائها لي، وتركتها تكمل:"لماذا علينا أن نقول الحقيقة، ونجلب المشاكل لأنفسنا. المهم تقولي إيه وتعملي الي براسك، بلا شواذ بلا قرف". ابتسمت للسيدة طويلًا. طالعتها ببلاهة، وشعرت حقًا حيال نفاقنا وازدواجيتنا، بكثير كثير من القرف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...