ليست مجازية بل حقيقية تلك الطرق التي يسلكها المرء حين يدخل إلى المخيم. حكتْ لي صديقتي عن تغيّر الأشياء الكثيرة التي شعرتْ بها حين دخلتْ إلى المخيم. "هو مكان مجازيّ"، قالت، ثم ضحكنا. في ما مضى كنّا نشعر بذلك السؤال الصّعب أمامنا في المدرسة: هل تحبّ العيش في الرّيف أم في المدينة؟ بينما نحن لم نعشْ بعد في الريف ولا في المدينة، فيأتي جوابُنا افتراضيًّا. المخيّم كان عالمًا قائمًا بحدّ ذاته بالنسبة لي؛ فهو ذاكرة الرّيف وحلم المدينة، وبينهما يكبر الصّغار، وقد لا تصل أحلامهم إلا للخارج، حيث التفكير بالهجرة أصبح همَّ الشّباب اليوم. حين كبر العالم أمامنا وانفتحت الدروب، صرنا نرى المخيّم يكبر. تلك الغرفة الصغيرة في العالم تنفتح؛ الأسلاك الكهربائية الشائكة في الفضاء، غرفة جدي الوحيدة، والأزقّة بين البيوت. نحمل المخيّم داخلنا كأنه شيءٌ ما عزيزٌ وغريب ومتعب تحتار كيف تشرحه. كنت أخاف من الكتابة عن المخيم. أخاف عليه من الانزلاق إلى عتمة المعاني وأزقة الاستعارات التي مللناها، ولكنّي مرة اخرى ألقي إلى تلك الحفرة نظرة أخرى، وأقول إني أحبّ تلك الأمكنة التي يتسلّقها المرء حين يدخل المخيم؛ إنها أمكنة ليست مجازية بل حقيقية؛ فمن مفترق الطرق يأتي هذا المكان إلى الوجود، ويتشكّل من أمكنة مختلفة.
كنت أخاف من الكتابة عن المخيم. أخاف عليه من الانزلاق إلى عتمة المعاني وأزقة الاستعارات التي مللناها، ولكنّي مرة اخرى ألقي إلى تلك الحفرة نظرة أخرى، وأقول إني أحبّ تلك الأمكنة التي يتسلّقها المرء حين يدخل المخيم.يتكوّن المخيم من فلسطين والذاكرة والحنين، ولكنّه جغرافيًّا يرتبط بلبنان. حين تدخل المخيم تفكر أيّ بشرٍ يسكنون في هذا العالم؟ قال صديقي: "شعرتُ أنها (أليس في بلاد العجائب) حين دخلتُ هذا المكان؛ حيث الأسلكة الشائكة في الفضاء والطريق الذي يتّسع فقط لشخصٍ واحد أو شخصين. هناك أدبيات متنوّعة للمخيّم؛ روايات تخرج منه وأخرى تُكتب عنه؛ فمنذ غسان كنفاني كانت هناك قصص وروايات تخرج من المخيم. ومن هنا وُلدت روايات كنفاني، مروان عبد العال، إبراهيم نصر الله، وداد طه، سامية عيسى ،حزامة حبايب، و آخرين. لكنّ المخيم اليوم قد تغيّر، وكذلك تغيّرت الكتابة عنه ومنه. فمنذ زمن الاشتباك، كما سمّاه غسان كنفاني، قد غرق المخيم في يومياته الحزينة ولم يعد هناك غير أثر بسيط للغنائيات القديمة التي كانت تصدح في سمائِه أثناء الثورة الفلسطينية. فتأتي رواية "حاسّة هاربة" لمَروان عبد العال، لتضع لنا كاميرا خفيّة على الدّمار النفسي والجغرافي لمخيم نهر البارد، وفي لحظة الدمار تلك، نكتشف الأمل المتبقي بين الحجارة والاحتراق. ومن هنا أيضًا تأتي "حليب التين"، للكاتبة الفلسطينية سامية عيسى، لتحكي عن مخيم عين الحلوة، حيث تدخل إلى مركز القهر، وتسلّط الضوء على الحرمان النفسيّ والجسديّ؛ فمن ثقوب الحائط حيث التلصّص على العالم حتى الهروب إلى دبي والعمل هناك. هنا نقرأ الغربة النفسية والجسدية للأنوثة الفلسطينية التي تعيش حياة ميكانيكية يسودها القهر. ثم تأتي رواية "مُخمَل" للكاتبة الفلسطينية حزامة حبايب الفائزة بجائزة نجيب محفوظ، من هذه الأجواء، ومن منطقة الحزن المنخفضة في مخيّم "البقعة" للّاجئين الفلسطينيين. تأتي "مخمل" كصرخةٍ انسانية شاعرية تلتفّ في دهاليز هذا المكان الشائك، فتخرج منه مثل أغنية مخملية تحلم بمكانٍ آخر. تخترق "مخمَل" حاجزَ الغنائيّات التي كانت تعتبر المخيمَ أيقونة، لتدخلَ بسلاسةٍ إلى كونِه مكانًا للحياة، فنراه كما نزوره لأوّل مرّة؛ نزور عائلة فيه، ونرى كم تعاني تلك العائلة من الحرمان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون