أمر محيّر أن تكون لشخص بمثل مواصفاته مثل تلك الشعبية الكبيرة بين أبناء جيل من أبرز سماته الانزواء والعزوف عن التواصل مع الآخرين. نتحدث عن الألفيين (جيل الألفيّة) الذين يشكّلون غالبية جمهور عالم النفس الكندي جوردان بيترسون، أحد أكثر الشخصيات تأثيراً في عالمنا اليوم.
لا يجوز إغفال القواسم المشتركة بين الألفيين الأكثر إخلاصاً لبيترسون وحماسة في الدفاع عنه وعن طروحاته المثيرة للجدل، ومعظم هؤلاء من الذكور الغربيين - بيض البشرة - الذين يعانون من التهميش كما سئموا من ترديد شعارات "الصواب السياسي"(political correctness) ومن تحميل بني عرقهم خطايا البشرية ووِزر جرائمها عبر القرون.
أولئك المتقوقعون في غرفهم أمام شاشات الهواتف النقالة والحواسيب، بات عدد لا بأس به منهم مقتنعاً بأن التيارات اليسارية والليبرالية لم تجرّ على بلدانهم سوى الخراب. ويرى هؤلاء أن الوقت قد حان للتصدّي لتلك التيارات ورموزها قبل أن تجرّد الرجل الأبيض من آخر امتيازاته المتبقية، بعدما سلبه الأكاديميون والمفكّرون الليبراليون رجولته – وفق وجهة نظرهم، وجعلوه كائناً ضعيفاً أنثوي الملامح والسلوك.
فكيف استطاع بيترسون أن يصل الى تلك الفئة التي تستقي معلوماتها من مشاهدة المقاطع المصوّرة وسماع الأحاديث المسجلة وتكتفي بقراءة العناوين دون المضمون؟ كيف نال ثقتها وولاءها المطلق إلى الدرجة التي انهالت فيها التهديدات على الصحفية والمذيعة كاثي نيومان بعد حوارها المتلفز العاصف معه الذي تابعه وتفاعل معه ملايين المشاهدين حول العالم؟
"يمثّل شخصيّة بتنا نفتقدها"
الحوار الذي تابعته على يوتيوب بين بيترسون ونيومان بدا لي شبيهاً بصراع الديوك (ديك ودجاجة ربما؟)، إذ تمكنت نيومان في بدايته من تسجيل نقاط عدة على بيترسون الذي فوجئ بهجومية أسئلتها وتلعثم في إجاباته عليها، قبل أن يستطيع إدارة الدفة لصالحه في النصف الثاني من الحديث وحصر محاورته في زاوية عجزت فيها عن دحض الاتهامات التي كالها لها.
هكذا ظهرت نيومان ضعيفة الحجة ومُحرَجة، حتى أن أتباع بيترسون صاروا يتداولون مقاطع من المقابلة كدروس في كيفية "تدمير" الآخر في نقاش محتدم.
قد لا يجد أحدهم في الحوار ما يُلهم، لكنه يعمّق الحيرة حول الرجل وشعبيته المتزايدة، فهو في أواسط الخمسينيات من العمر، يخلو مظهره من الوسامة بل أن بشرته باهتة على نحو ملفت وطريقة نطقه للكلمات بطيئة بشكل مزعج دون أي تعبير وجه متفاعل. يذكّر بيترسون بالشخوص الروائية للأموات العائدين للحياة أو الـ"Zombies".
"جوردان بيترسون بالنسبة لي ولكثيرين سواي من الألفيين البيض يمثل شخصية موجّهة بتنا نفتقدها في عالمنا الملوّث بجعجعات الصواب السياسي التي يردّدها الجميع من حولنا، بمن في ذلك آباؤنا وأمهاتنا"، قال لي ج. م. هاند، أحد المتابعين المخلصين لبيترسون بعدما التقيت به صدفة حيث يعمل في قاعة السينما المجاورة لسكني.
وهاند يبلغ منتصف العشرينات من العمر، وهو أبيض البشرة (بطبيعة الحال!)، ابن لرجل أمريكي وامرأة من نيوزلندا منفصلين عن بعضهما منذ سنوات عدة، لا يملك مؤهلاً جامعياً، بل أنه لم يكمل تعليمه الثانوي.
"إعجابي به بدأ مباشرة بعد مشاهدته يتحدّث على يوتيوب، في تلك الفترة كنت أمرّ بأزمة نفسية خانقة وأعاني من قلة تقدير مؤلمة للذات، كل ما كنت أفعله كان التعبير عن غضبي على منصات التواصل الاجتماعي، لكن جوردان شجّعني على الخروج من حيّزي المحدود والاعتزاز بهويتي كشاب أبيض"، يقول هاند مضيفاً "دعاني (بيترسون) إلى البدء بتغيير العالم بتنظيم أرفف غرفتي والبحث عن عمل يدرّ عليّ مورداً مالياً منتظماً، وكان ذلك ما قمت به بالفعل".
أمر محيّر أن تكون لشخص بمثل مواصفاته مثل تلك الشعبية الكبيرة بين أبناء جيل من أبرز سماته الانزواء والعزوف عن التواصل مع الآخرين. نتحدث عن الألفيين الذين يشكّلون غالبية جمهور عالم النفس الكندي جوردان بيترسون، أحد أكثر الشخصيات تأثيراً وجدلاً في عالمنا اليوم
أغرب ما في الموضوع أن هناك ألفيين عرب معجبين بجوردان بيترسون... بدا مدهشاً ما كتبته مغرّدة شابة من الخليج عن أن بيترسون هو الشخص المشهور الذي تتمنى تناول العشاء معه ذات يوم
الحديث مع هاند وضّح لي الآلية التي تمكّن بيترسون عبرها من التسلّل إلى مخادع الألفيين البيض في الغرب والتأثير عليهم، لكن اللافت على "تويتر" كان حجم جمهور بيترسون بين الألفيين العرب، الذكور منهم والإناث، والكمّ الكبير من التعليقات المعجبة به والتي تقتبس مقولاته باللغتين الإنكليزية والعربية.
كيف وصل بيترسون إلى الألفيين العرب؟
محمد، شاب من الموصل، كان قد شهد جزءاً من فظائع داعش والدمار الذي ألحقه بمدينته قبل أن يتسنى له ولأسرته الفرار من جحيمها والعيش خارج العراق.
وعي محمد السياسي وتحليلاته العميقة وقدرته على التعبير عن أفكاره بإنكليزية سليمة من أول الأمور التي تلفت الانتباه. قمت بمتابعته والتعليق على كثير مما كتبه حتى نشر ذات يوم تغريدة عن بيترسون، عبّر فيها عن تأثّره به بطريقة كادت أن تكون مطابقة لما سمعته من هاند الأمريكي، ثم أعلن بعدها قراره اعتزال مواقع التواصل الاجتماعي ومتابعة السياسة، والتفرّغ الى البحث عن فرصة عمل، خصوصاً وأنّه يوشك على إتمام دراسته الجامعية.
"لا جدوى من إضاعة الوقت والجهد في النقاش السياسي، فعالم التواصل الاجتماعي مزيّف وعبثي وقلّما يتيح للفتى منا فرصة للتأثير الفعلي، تعلّمت من جوردان أن الحياة الحقيقية تقع خارج جدران غرفتي الضيّقة، وأن عليّ السعي للحصول على فرصة لي فيها قبل فوات الأوان، ذلك ما يتصدّر قائمة أولوياتي الآن"... هذا كان تعليق محمّد من الموصل.
محمد آخر، من الكويت هذه المرة، يتابع دراسته العليا في الولايات المتحدة، أكّد لي ما ذكره سميّه العراقي عندما سألته عن سبب اقتباسه المُتكرّر لمقولات بيترسون، ثم أضاف: "قد لا تروقني شخصيته، كما أني أختلف معه في بعض آرائه، لكنني أجد الكثير مما يطرحه في أحاديثه وكتبه قيّماً ومثيراً للإعجاب".
قرّرت الاطلاع على أحد مؤلفات بيترسون المنشورة خشية أن يكون رأيي فيه متأثراً بانطباعي الأول السيء عقب مشاهدته على يوتيوب. استعرت كتابه الأخير"12 قاعدة للحياة" (Rules for Life 12) من المكتبة وقرأته باهتمام.
يشبه الكتاب سواه من كتب تطوير الذات التي ازدادت شعبيتها على نحو ملحوظ خلال العقود الأخيرة وباتت تجارة رابحة تدر الملايين على مؤلفيها، لكن صفحات وفصول الكتاب تشكّل مفتاحاً لفهم شخصية بيترسون وفكره، وفيه يبدو كواعظ صارم في أحد الكنائس البروتستانتية التي شكّلت بيئته الأولى.
استوقفني أسلوبه السلطوي وجمود معتقداته وزعمه امتلاك إجابات وحلول لكافة أسئلة ومشاكل الشباب. يبدو لافتاً أن عالم النفس المرموق يعاني من تراكمات طفولة مضطربة صنعت شخصيته الغريبة، لكن كيف يمكن تفسير استقطابه لتلك الأعداد المتزايدة من الألفيين العرب؟
لو كان سر جماهيريته في الغرب كما زعم ج هاند أنه تمكن من ملء مقعد الأب الشاغر والقيام بدوره التوجيهي، فمن المعروف أن الأمر مختلف تماماً بالنسبة للشباب العربي الذي يعاني معظمه من فرط تواجد السلطة الأبوية في حياته وتحكّمها المرضي بها في أحيان كثيرة.
أغرب ما في الموضوع أن هناك ألفيين عرب معجبين ببيترسون يحملون آراء تكاد تكون على النقيض من طروحاته.
بدا مدهشاً ما كتبته مغرّدة شابة من الخليج عن أن بيترسون هو الشخص المشهور الذي تتمنى تناول العشاء معه ذات يوم. الصدمة أن تلك الفتاة، تحديداً، تجاهر بإلحادها بينما يروّج بيترسون لفضائل الدين (المسيحية تحديداً، وليس الإسلام- تحديداً أيضاً)، وهي ثائرة على التقاليد بينما هو يرى في الأعراف المتوارثة ضمانة وحصانة للمجتمعات ويُعدّ من رموز التيار المحافظ، هي نسوية شرسة في دفاعها عن حقوق بنات جنسها بينما هو ممجّد للذكورة التي يراها رديفاً للنظام ويعتبر الفوضى سمة أنثوية بامتياز ويعارض المساواة في الأجور بين الجنسين …
أكثر من ذلك، تقدم تلك الفتاة نفسها كمثلية الجنس بينما يُعرف بيترسون بموقفه المناوئ لحقوق المثليين والمتحولين، وأخيراً فهي تحلم بالهجرة الى الغرب وتسعى لها بشتى السبل بينما يؤمن بأن تذويب الهوية القومية لشعب ما عن طريق استقباله المهاجرين واللاجئين من ثقافات مختلفة سيتسبب في المحصلة بإضعافه ثم انهياره.
ما هو السر إذاً وراء تمجيد الألفيين العرب لجوردان بيترسون؟ هل هم حقاً عاجزون عن رؤية وإدراك أن الرجل يمثّل بشخصه وفكره المضاد الصارخ لكل ما ينادون به ويطمحون اليه، أم أنها ليست سوى موضة أو هبّة ستزول وتتلاشى بعدما يتجاوزه الشباب الغربي وتذوي جماهيريته بينهم؟ أم تراها "عقدة الخواجة" ومتلازمة "الفرنجي برنجي"؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع