في بداية الربيع العربي لم تعجب حماستي وحماسة أصدقائي للثورات أبي الراحل، كان يقول لي "أنتم لا تعرفون الحرب" وكنت أحيل خوفه مما يجري لعمره لا لخبرته.
حينذاك كانت معظم أحلام الشباب العربي تتعلق بالوظيفة والحب والزواج وفي أحسن الأحوال بالهجرة، معظمهم لم تراوده أحلام قومية أو وطنية كبرى، فجأة وجدنا أنفسنا نحلم بالديموقراطية والكرامة وحرية التعبير، نردد الأغاني الوطنية المندثرة من طفولتنا، كنا الأشد اهتمامًا بالحدث السياسي، بل كنا نحن الحدث، سحرتنا الأصوات وهي تتوحد كصوت واحد، والمطالب وهي تتحول لأمر واحد، كنا نريد التغيير، ونريد ونريد.مات أبي وظلت الحرب حيّة تغذي نشرات الأخبار بأنباء الموت والتشرد واللجوء والفقر والأوبئة. عرفنا ما هي الحرب يا أبي.
سبع سنوات كافية لنتعلم ما لم نكن نعلمه، كافيه لخلق حالة ذهنية من المفاضلة بين الحرب والسلام اللذين عشناهما، لإدراك أن الأحداث المتسارعة الساحرة الباعثة على النشوة في زمن الثورة، تتحول لبطيئة حلزونية تستدعي الصبر في زمن الإصلاح.أنا من الجيل الذي عاش فترة لا بأس بها من شبابه قبل الربيع العربي، والذي يشعر بين حين وآخر بحنين سرّي ومخجل لشكل الحياة المسالم كما كان قبل الـ2011، كنا نعيش سلامًا ما، كان الوقت جامدًا وجاء الربيع العربي ليحرّك كل شيء، ليضخ الحياة في شبابنا وأحلامنا، ليصبح لنا أصدقاء جدد في تونس ومصر وليبيا وسوريا والعراق واليمن وفلسطين والأردن، مناضلون وسجناء وأحيانًا شهداء.واليوم بعد سبع سنوات دامية، هتفنا بها ضد الأنظمة والعسكر والأخونة والدعشنة والقمع والفساد، وبعد الفشل والندم وعودة الأنظمة لتموضعها الخانق، صار لا بد من محاكمة الذات، وصار لا بدّ من السؤال، إذا كنا نكره الحرب إلى هذا الحدّ، فماذا فعلنا في السلام؟ ما الذي أنجزناه مقارنة بالدول التي تملك مواردنا؟ وعلى ماذا نبكي وإلى ماذا يشدنا الحنين؟
على مستوى الأنظمة يحمل العالم العربي ألقابًا عدة، منها أدنى مؤشرات التنمية والنمو الاقتصادي، أعلى مستويات البطالة، الأقل اهتمامًا ببرامج الشباب والطفولة وذوي الاحتياجات الخاصة، الأكثر فسادًا، الأقل محاسبة للمقصرين، الأقل التزامًا بحقوق الإنسان، والأكثر قمعًا للمرأة.
على مستوى الأنظمة تم السماح للجماعات المتشددة بالحياة بيننا، والتغاضي عن التعبئة الفكرية التي تمارسها، والاستعانة بهم من حين لحين لقمع المفكرين والمجددين بيد غير رسمية.
تمت منهجة اضطهاد الأقليات ليمسي عزلها جزءًا من ثقافتنا، أجيال كاملة من الأقليات الدينية والعرقية عاشت أعمارًا كاملة دون أن تغادر مناطقها وقراها، دون أن يسمح لها بالتعبير عن معتقداتها، دون أن تتاح لها فرصة المشاركة في الحياة السياسية والوظائف العامة أو تبادر أي دولة إلى جمع شملهم ودمجهم بشكل حقيقي في المواطنة.
على مستوى الأنظمة، صودرت الحريات، زُورت انتخابات، وُرثت دول كاملة، فعن أي سلام أتحدث؟
وهناك ما هو أسوأ، الإنسان العربي الذي ناسبه قمع الأنظمة السياسي لأنه شرعن رغبته بممارسة القمع الاجتماعي.
هناك الكثير مما يمكن أن يقال في إدانة الشعوب التي لم تطالب بالحرية بل بالرخاء الاقتصادي، والتي ساعدت الأنظمة في قمع الفئات الأضعف، وكان لها دور مهم في مأسسة الظلم وإشاعة الإقصاء والعنصرية بيننا.
هناك الكثير مما يمكن أن يقال في شعوب أيدت الأنظمة في مصادرة الحريات ولم تزل، لأنها بنظرها حريات غير مستخدمة كحرية الاعتقاد، أو حريات تدمر عادات وتقاليد المجتمع كحرية المرأة.
الشعوب التي ساهمت بدورها بعزل الأقليات الدينية ولم تنتصر لها في وقت السلام.
الشعوب التي ربّت الإرهاب بينها واعتبرته انتصارًا للدين وشكّل بعضها مجتمعات حاضنة له قبل أن تكتوي بناره.
الشعوب التي ظلت تزوج القاصرات وتمارس قتل الشرف وتصادر إرث النساء وتتحفظ على عمل المرأة حتى الألفية الثانية.
الشعوب التي لم نزل بحاجة لإقناعها بأن التحرش مرفوض، وأن ضرب الأطفال في المدارس مرفوض، وأن حرية التعبير وحرية الاعتقاد وحرية الحركة وتقبل الآخر هي حقوق طبيعية للرجل والمرأة.
حينذاك كانت معظم أحلام الشباب العربي تتعلق بالوظيفة والحب والزواج وفي أحسن الأحوال بالهجرة، معظمهم لم تراوده أحلام قومية أو وطنية كبرى، فجأة وجدنا أنفسنا نحلم بالديموقراطية والكرامة وحرية التعبير.
أنا من الجيل الذي عاش فترة لا بأس بها من شبابه قبل الربيع العربي، والذي يشعر بين حين وآخر بحنين سرّي ومخجل لشكل الحياة المسالم كما كان قبل الـ2011
واليوم بعد سبع سنوات دامية، هتفنا بها ضد الأنظمة والعسكر والأخونة والدعشنة والقمع والفساد، وبعد الفشل والندم وعودة الأنظمة لتموضعها الخانق، صار لا بد من محاكمة الذات، وصار لا بدّ من السؤال، إذا كنا نكره الحرب إلى هذا الحدّ، فماذا فعلنا في السلام؟