أحيانًا تأتي لحظات استثنائية، لا يُمكنُ للصحافي أن يبقى مُحايِدًا إزاءها، فَيجِدُ نفسه مُضطرًا لتسجيل موقف حتى يكون -على الأقل- منسجمًا مع اقتناعاته.
في قضية الصحافي المغربي توفيق بوعشرين، ناشر جريدة "أخبار اليوم"، كان من الضروري أن أُسجِّلَ موقفًا حتى أكون مُنسجمًا مع اقتناعاتي وتوجُّهاتي الفكرية؛ كيف أبقى صامتًا وبوعشرين كان من خيرة الصحافيين المغاربة، إلى أن أصبح في وقت من الأوقات الصحافي المستقل رقم واحد في البلاد بدون منافس، بعدما تمَّ "التَّخلُّص" من صحافيين آخرين كانوا في السنوات القليلة الماضية يُجسِّدون المعنى الحقيقي لِمَفهومَيْ الصحافة المستقلة والسلطة الرابعة في المغرب.
ما الذي ربحته السلطة في حربها ضد الصحافة المستقلة؟عندما صدر الحكم القاضي بسجن بوعشرين لمدة 12 عامًا، على خلفية مُتابعتِهِ بِتُهم ثقيلة تتعلَّقُ بالاغتصاب والاتجار بالبشر أجْمعتْ أشْهرُ الشخصيات السياسية والحقوقية في المغرب على أنها تُهم مُلفَّقة؛ صُعِقْت، وتسرَّبَ إلي دواخلي الإحساس بالخوف، لأن صدور هذا الحكم القاسي في حق صحافي من حجم توفيق بوعشرين، يعني أن الدولة قد جَنَّ جُنونُها، وأنَّها ما عادت تحْتمِلُ سماع الأصوات المنتقدة وإن كانت مُتَّزنة ومعتدلة في مَواقِفها؛ وهذه صفات توفَّرتْ في بوعشرين طِوال مساره المهني. خلال محاكمته الطويلة التي استغرقت ثمانية أشهر، عُدتُ إلى أرشيف افتتاحيات بوعشرين منذ تأسيس جريدته "أخبار اليوم" في مارس 2009، وقرأت ما يزيد عن مئات المقالات التي كتبها الرجل خلال التسع سنوات الماضية... جل كتاباته كانت تتطرَّقُ إلى مواضيع الساعة، خاصة فيما يتعلَّقُ بالميدان السياسي؛ ولعمري، كانت كُلّها مقالات بحمولة نوعية وأسلوب راقٍ يحترم ذكاء القارئ، إلى أن تحوَّلت إلى منبر يُدافع عن قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في بلاد ظلَّت تدَّعي منذ نحو عقدين من الزمن أنها دولة الحق والقانون والمواطنة؛ دون أن نَلمسَ، نحن المواطنون المغاربة، ذلك في أبسط الأمور/الحقوق المُتعلِّقة بالحياة اليومية؛ بعيدًا عن كل ما هو سياسي. لم يكن بوعشرين يومًا ضد الملك، بل كان في كُلِّ مرة يؤكد على مدى أهمية المؤسسة الملكية بالنسبة لدولة كالمغرب؛ لكنه في المقابل كان توَّاقًا إلى رؤية الملكية تُرسي دعائم نظام ديمقراطي حقيقي في البلاد، لدرجة أنه أصدر عددًا خاصًا من جريدته غداة خطاب الملك في التاسع من مارس 2011 إبان انطلاق الربيع المغربي بعنوان: "الملك أسْقطَ النظام: محمد السادس يتخلَّى عن الملكية المطلقة ويُبشِّرُ بملكية برلمانية"؛ لكن سرعان ما تبيَّنَ له، ولنا جميعًا، أننا لم نجد بعد الطريق نحو الديمقراطية... إن الحكم على توفيق بوعشرين ب 12 سنة سجنًا من شأنه أن يزرع الخوف في نفوس كل مغربي يريد أن يمارس مهنة الصحافة بمهنيّة وانفتاح وانحياز واضح إلى قيم الديمقراطية والحداثة وحقوق الإنسان والمواطنة والحكامة الجيدة... فحتى إذا كُنت تُحبُّ الدولة وتؤيِّدُ الملكية؛ فإن ذلك لن يشفع لك غدًا إذا أصبحت هدفًا ل"صْحابْ الوْقتْ"... لذلك عليك أن تُوافق -منذ اليوم الأول- على دفتر التحملات الذي تفرضه السلطة، وتنضم إلى جوقة المطبلين، وتعزف نفس اللحن، وتشرب من نفس الكأس، دون أن تناقش أو تبدي رأيك أو تدافع عن شيء. ما الذي ربحته السلطة في حربها ضد الصحافة المستقلة؟ فعلى مدار العشر سنوات الماضية، تمَّت تصفية كل التجارب الإعلامية التي كانت تشكِّلُ مصدر إزعاج بسبب خطها التحريري الحر؛ فيما اضطر الصحافيون الذين يتّخِذون الاستقلالية عُملة لهم إلى مغادرة البلاد للعيش في الخارج، قبل أن يجدوا أنفسهم في غياهب السجن. لقد كانت كتابات أحمد بن شمسي على مَجلَّتيْ "نيشان وتيل كيل Telquel" تنتقِدُ غياب الحِس الديمقراطي واحتكار السلطة في يد واحدة، وكانت افتتاحيات أبو بكر الجامعي على مجلة "لوجورنال" تنتقِدُ بشكل مُبرح زواج المال والسلطة والشخصيات النافذة في الدولة التي تصنع القرار السياسي والاقتصادي في المملكة فقط لأنها مقربة من القصر...
كيف أبقى صامتًا وبوعشرين كان من خيرة الصحافيين المغاربة، إلى أن أصبح في وقت من الأوقات الصحافي المستقل رقم واحد في البلاد بدون منافس
عندما صدر الحكم القاضي بسجن بوعشرين لمدة 12 عامًا، على خلفية مُتابعتِهِ بِتُهم ثقيلة تتعلَّقُ بالاغتصاب والاتجار بالبشر أجْمعتْ أشْهرُ الشخصيات السياسية والحقوقية في المغرب على أنها تُهم مُلفَّقة؛ صُعِقْت، وتسرَّبَ إلي دواخلي الإحساس بالخوف
جل كتاباته كانت تتطرَّقُ إلى مواضيع الساعة، خاصة فيما يتعلَّقُ بالميدان السياسي؛ ولعمري، كانت كُلّها مقالات بحمولة نوعية وأسلوب راقٍ يحترم ذكاء القارئ
كان في كُلِّ مرة يؤكد على مدى أهمية المؤسسة الملكية بالنسبة لدولة كالمغرب؛ لكنه في المقابل كان توَّاقًا إلى رؤية الملكية تُرسي دعائم نظام ديمقراطي حقيقي في البلاد
يعني أن الدولة قد جَنَّ جُنونُها، وأنَّها ما عادت تحْتمِلُ سماع الأصوات المنتقدة وإن كانت مُتَّزنة ومعتدلة في مَواقِفها
إن الحكم على توفيق بوعشرين ب 12 سنة سجنًا من شأنه أن يزرع الخوف في نفوس كل مغربيأين هؤلاء الصحافيون الآن؟ لقد غادر بن شمسي المغرب سنة 2010 في اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية شهرين بعد إغلاق مجلة "نيشان" التي كانت تحطم أرقامًا قياسية في نِسَبِ المبيعات بعدما ترسَّخت لديه القناعة بأنه لا يمكنه أن يمارس الصحافة بالشكل الذي يمارسه بها لأن الدولة لن تسمح بذلك؛ فيما اختار الجامعي المنفى الاختياري سنة 2007 وتخلَّى عن إدارة النشر تفاديًا لإغلاق "لوجورنال" بعد إدانته بغرامة قاسية قدْرُها ثلاثة ملايين درهم؛ لكنه ما إن عاد مجددًا ليُوقِّعَ افتتاحيات المجلة، تم إغلاقها مطلع 2010 بدعوى عدم تسديد "ديون كبيرة". إن فقدان حرية التعبير أصبح أمرًا لا يُطاق في المغرب، وسأكون كاذبًا إذا لم أقل بأنني أفرض على نفسي رقابة ذاتية في معالجة بعض المواضيع التي تخص الشأن السياسي، وأنه يحدث أن أتراجع في بعض الأحيان عن كتابة بعض الأشياء؛ وأحيانًا عن نشر مقالات أكون قد أنهيت كتابتها بعد يومين أو ثلاثة من الاشتغال عليها! والسبب واضح: الخوف من غضب حُرّاس المعْبدْ. صدق الصحافي السعودي الراحل جمال خاشقجي لما كتب على رصيف22 في يونيو الماضي أن "أصعب شيء أن تُسجن دون سبب. المثقف ليس مجرماً، لذلك تجده دوماً غير مستعد للسجن". تحاشوا السجن ما استطعتم...
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...