شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
أيّهما المنفى... بلادنا الأمّ أو الجديدة؟

أيّهما المنفى... بلادنا الأمّ أو الجديدة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 11 نوفمبر 201804:30 م

أعود إلى هناك، المكان الذي لم أعد انتمي إليه لكنه أصل نسختي الأولى. نسخة لا يعود ترميمها مفيداً. تهمل مع الوقت. تتحايل عليها الظروف. هذا ما يسمونه التأقلم واسميه العيش في ردهة المنافي الزرقاء.

ونحن في زمن الهجرة واللجوء، نعيش منافينا الخاصة والشخصية ويصبح معها المنفى متعدداً ومتلوناً، لا بل كرة دائرية نضع فيها جل غضبنا وأحلامنا ونتقاسم فيها الحنين. وكلما التقيت بأصدقائي المنفيين مثلي، من العراق وسوريا وفلسطين، يصبح الحنين لغتنا. كأننا لا نزال نعيش في أصوات الماضي وكل ما يجري لنا مؤقت ومستقطع من حياتنا.

في زيارتي لإحدى صديقاتي السوريات في باريس، وقفت وجلاً أمام صحون الطعام. طاولة ملأى بأطعمة بلادنا. هي نفسها التي أعد بعضها وحيداً في شقتي الباردة. لكني لوهلة شعرت أنني في البيت. قلت لها: "دعوني آكل بهدوء، فهنا شيء من أمّي ديبة وخالاتي".

كان الأمر بديهياً. وحين أذكر القصة على بساطتها أتطلع إلى عيون أصدقائي الفرنسيين الذين لم يفهموا من كلامي إلّا الحنين. لم يروا أن وقوفي هذا، ثم انخراطي في الأكل بهذا الشكل والاستمتاع به، كان موجعاً رغم لذته. أيّ أنه صنيعة مفهوم كنت أواجهه كل يوم منذ قدومي إلى فرنسا، وهو المنفى.

ومنذ أن تنقلت في بيوت عدة، بين تولوز وباريس و"شاريتيه سور لوار"، وأن لا أجد نوماً ولا لذة مكتملة.

كنت أمام "طاولة المنفى" هذه أحزر شكل بيتنا وحارتنا وعيون الجارات. عيناي أمي وتجاعيد وجهها. يد ابن شقيقتي. بستان الدراق في قريتنا. وأتذكر بثوان ضائعة كل شيء تقريباّ. شوارع مدينتي العالقة في رأسي والباعة الموزعين في أزقتها وروائح الحلويات العربية والفول والحمص ورائحة بحر الميناء. تعود لي ذكريات ربما لن يكون سهلاً عليّ تذكرها لو تأملت طويلاً. تعود هكذا بسيطة. مرتبة، مرتبكة أيضاً. فأصير أحسب فارق الوقت بين هنا وهناك. ساعة واحدة متأخرة عن منفاي. فيختلط علي الأمر، هل بلدي الأم منفاي أم بلدي الجديد هو المنفى؟

ومنذ أن تنقلت في بيوت عدة، بين تولوز وباريس و"شاريتيه سور لوار"، وأن لا أجد نوماً ولا لذة مكتملة. كل شيء ناقص. أعترف أن المنفى تبنيج ويستمر، وقسوة منمنمة فوق الوجه. نعرف بعضنا نحن المنفّيون داخل محطات المترو. نعرف نمنماتنا، وبنظراتنا التائهة والضاجة والنوم الثقيل في الأجفان. نعرف بعضنا من تلعثمنا من كل شيء. من اشتداد عضلات ظهورنا واستحيائنا كأننا أكثر غربة من غيرنا. نتعرف إلى "كودنا المشترك" الذي يدلنا أننا أولاد وطن واحد اسمه اللا شيء. إننا أولاد الردهة الزرقاء، باختلاف بشراتنا وألوانها وسنحات وجوهنا. قد يبتسم بعضنا لبعض، كإشارة، أن كل واحد منا هنا يعرف الآخر، وسيدله يوماً إلى بيته في المقلب الآخر من الدنيا، في سوريا أو اليمن أو العراق أو لبنان أو فلسطين أو الجزائر أو المغرب والسودان، من شمال أفريقيا وأفغانستان. أماكن وهويات، تصبح رديفة في بلادنا الجديدة. فنتحول إلى "الغرباء" الذين يعيشون فكرة العيش، وقد ينسون ويتناسون.

تعددت أفعال المنفى في حياتي. داخل الكتابة التي أمارسها منذ منفاي الأوّل الداخلي. ثم في الرسم، منفاي الذي يسعفني من الهرب من عالم الكتابة ومطارقها الصلدة. ثم منفى الكوابيس الليلية والأحلام. تعود صور المنفى أحياناً مع أشخاص نلتقي بهم للمرة الأولى. مع دهشة الحب والوله واللقاء. ثم تعود نسخنا الأولى قبل أن نأتي وتتحول فينا الأمزجة والأيام وقبل أن نتلعثم بلغة الآخرين ونبدد لغتنا. لماذا تعود هذه النسخة مراراً؟

أسأل ولا اريد جواباً.

في الكتابة وكلما عدت الى هذا الأصل أجده مشوهاً حدّ الانتفاء. وأجد في الكتابة منفاي الذاتي، فالكتابة بحدّ ذاتها منفى وهي الهجرة أو الطرد، على ما كتب يوماً الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز. ويكاد ما بقي مني، مجرد آخر لم يعد يشبهني. لكن هذا الأصل هو ظلالي التي تتبعني. تلاحقني. تذكرني بأني من هناك.

وكلما التقيت بأصدقائي المنفيين مثلي، من العراق وسوريا وفلسطين، يصبح الحنين لغتنا.
نعرف بعضنا نحن المنفّيون داخل محطات المترو. نعرف نمنماتنا، وبنظراتنا التائهة والضاجة والنوم الثقيل في الأجفان.
نتعرف إلى "كودنا المشترك" الذي يدلنا أننا أولاد وطن واحد اسمه اللا شيء. إننا أولاد الردهة الزرقاء، باختلاف بشراتنا وألوانها وسنحات وجوهنا.
وها أنا رغم أني أواصل الهرب والمشي والترحال، أعد نفسي منبوذاً، فلا هنا بيتي ولا هناك.

في إحدى المرات أرسل لي صديقي فادي العبدالله حين اخبرته عن المنفى وشدة وقعه عليّ، وأني لا أشهر أني انتمي إلى فرنسا ولا إلى لبنان بعد الآن. وأني مجرد تائه. ارسل لي قصيدة قسطنطين كفافيس التي يقول فيها:

"لن تجد بلادًا جديدة، لن تجد ضفة ثانية،

هذه المدينة ستطاردك. سوف تمشي

في الشوارع نفسها، تشيخ في الأحياء نفسها،

ستُصْبَغ رماديًا في هذه المنازل نفسها.

سينتهي بك المآل دائماً إلى هذه المدينة. لا تتأمل أشياء في مكان آخر:

ليس ثمة سفينة لأجلك، ليس ثمة طريق.

بينما كنت تبدد حياتك هنا، في هذا الركن الصغير،

دمرتها في كل مكان آخر من العالم".

وكلما حرتُ، أقف متألماً أمام سؤال وحيد: ما هو المنفى؟ فأعود إلى ما قاله يوماً المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، أن "النفي واحد من المصائر الأكثر حزناً. قبل الأزمنة الحديثة كان النفي على وجه الخصوص عقوبة فظيعة نظراً لأنها لم تكن تعني سنوات من التجوال بلا هدف بعيداً عن الأهل والأمكنة المألوفة فقط. بل عنت أيضاً نوعاً من منبوذ باستمرار".

وها أنا رغم أني أواصل الهرب والمشي والترحال، أعد نفسي منبوذاً، فلا هنا بيتي ولا هناك.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image