منذ أن تبصر الأنثى النور تتلقى تأنيباً من أهلها بسبب صراخها "المُحرج" وحين تكبر في السن وتصبح أكثر إدراكاً ويقظةً لما يدور من حولها تتلقى صفعةً أقوى من أهلها ومن المجتمع المحافظ الذي يحاول إسكاتها بشتّى الطرق، فيفرض عليها نبرة صوت معيّنة زاعماً أن صوتها يجب أن يبقى خافتاً، هادئاً، وإلا فقدت "أنوثتها". هذا هو حال المرأة في مجتمعاتنا والتي يعتبرها البعض "كائناً ناقصاً" فيحرمها من أبسط حقوقها خاصة لناحية إعطائها فرصةً للتعبير عن رأيها ومواقفها، وفي حال قررت التمرد وكسر الصور النمطية وجعل صوتها عالياً يتم انتقادها نقداً لاذعاً. المسألة تختلف عند الرجال، فكلما كان صوته عالياً دلّ ذلك على "الرجولة" والفحولة. لماذا هذا "التمييز الصوتي" في المجتمعات الذكورية؟
عوامل تتحكم بنبرة الصوت
في الوقت الذي يحاول فيه بعض الاشخاص بشدة أن يرفعوا صوتهم قدر المستطاع ليتم سماعهم من قبل الآخرين، هناك في المقابل أشخاص يُطلب منهم باستمرار خفض صوتهم العالي خاصة في الأماكن التي تتطلب جواً من الهدوء والسكينة. فما هي العوامل التي قد تتحكم بنبرة الصوت؟ أوضحت دكتور "امي شاه"، مديرة مختبر الصوتيات في جامعة كليفلاند ستايت أن هناك 4 عوامل مختلفة من شأنها التأثير على نبرة الصوت: مكوّن بيولوجي، مكوّن باثولوجي، سمة شخصية، مكوّن ثقافي.وفي حين ان اختلاف نبرة الصوت قد يكون أحياناً مرتبطاً بمسألة حجم الحنجرة والحبال الصوتية أو يعود إلى امتلاك بعض الأشخاص رئتين صغيرتين وبالتالي عدم توليد ما يكفي من الهواء ليكون صوتهم عالياً، فإن الشخصية يمكن أن تلعب دوراً كبيراً في نبرة الصوت، وفق ما أكدته "شاه" التي أوضحت أن بعض الأشخاص يمكن أن يكونوا خجولين، منطوين على أنفسهم ومكبوتين، وبالتالي في حال لم يشعروا بالراحة في موقفٍ اجتماعي معيّن فإنه من الناحية النفسية لا يكون بوسعهم التحدث بصوتٍ عالٍ.
وكشفت "شاه" لموقع nbcnews أن الثقافة يمكن أن تؤثر بدورها على مسألة التحدث بصوتٍ عال أو خافت، شارحةً ذلك بالقول: "بعض الثقافات تمنع التحدث بصوتٍ عال، خاصة إذا كان المتحدث امرأة".
من قال إن نبرة الصوت القوية لا تناسب النساء؟ ولم هذا "التمييز الصوتي" في مجتمعات؟
لا تجلسي وتفتحي ساقيك كالرجال"، "لا تقومي بأي حركاتٍ مشبوهة قد تترجم على أنها إيحاءاتٍ جنسيةٍ"، "لا تقولي نكاتاً جنسية"، "لا ترفعي صوتك عالياً ولا تتكلمي بنبرةٍ قويةٍ"
استخدمت الحركة النسوية كلمة "الصوت" للإشارة إلى مجموعةٍ واسعةٍ من التطلعات والمطالب، خاصة حرية التعبير، وأصبحت هذه الاستعارة منتشرة جداً لدرجة أننا نسينا الأبعاد المادية الكامنة وراء صوت الأنثى
التمييز الصوتي
"لا تجلسي وتفتحي ساقيك كالرجال"، "لا تقومي بأي حركاتٍ مشبوهة قد تترجم على أنها إيحاءاتٍ جنسيةٍ"، "لا تقولي نكاتاً جنسية"، "لا ترفعي صوتك عالياً ولا تتكلمي بنبرةٍ قويةٍ". هذه السلسلة من "اللاءات" وغيرها نسمعها دوماً في المجتمعات الذكورية، لأنه غالباً ما تضع هذه المجتمعات خطاً فاصلاً بين سلوك الرجل وسلوك المرأة، اعتماداً على مبدأ "التمييز الجنسي"، فما هو مسموح ومقبول لدى الرجال يعتبر أمراً نافراً في حال قامت المرأة به، خاصة لناحية التحدث بصوتٍ مرتفع. يوضح موقع Study Breaks أنه في الإجمال يتم انتقاد النساء اللواتي يحاولن الحصول على "مساحة" في هذا العالم، إذ يتعرضن لانتقاداتٍ في حال لم يتصرفن وفق الطريقة التي يعتبرها المجتمع الذكوري صحيحة وملائمة، خاصة أن هناك معياراً مزدوجاً صارماً بين الرجال والنساء عندما يتعلق الأمر بما يعتبر راقياً ومقبولاً اجتماعياً. بإمكان الرجال مثلاً أن يتحدثوا عن الجنس من دون أي تداعيات، إنما تعتبر النساء "بذيئات" و"فاسقات" في حال فعلن ذلك، وبالطبع بإمكان الرجل أن يرفع صوته عالياً في المجتمع في حين أن هذا السلوك يعتبر "وقاحة" عند النساء. ولكن ما هو البعد الفلسفي الذي يكتسبه الصوت واختلافه بين عالمي الرجال والنساء؟ إن الصوت البشري هو أكثر من مجرّد قناة لإيصال اللغة: ففي اللحظة التي نفتح فيها أفواهنا ونبدأ بالكلام، يكشف صوتنا عن هويتنا الجنسية، حالتنا النفسية والاجتماعية والصحية، ويعطي فكرة للمستمع عمّا إذا كان يجب عليه أن يثق بنا، يحترمنا أو يرفضنا. يمكن للصوت البشري أن يذهب أبعد وأعمق من حدود الكلمات، كما أن مجال التصوير الصوتي القائم على النوع الاجتماعي يساعد في تحديد مفهوم الصوت كفضاء يسمح بتشكيل فئات الإناث والذكور. بحسب موقع Sound Studies فإن الصوت البشري هو من أكثر الفئات التي ترسم ملامح الهوية الجنسية، ففي حال سمعنا صوتاً من دون "مرجع بصري" (الاستماع إلى الراديو مثلاُ) نميل فوراً إلى تصنيف الصوت على أساس أنه ينتمي إلى "رجل" أو "إمرأة".في سياق متصل أوضح الموقع أن الهوية الجنسية تؤثر على كيفية قراءة الصوت ونبرته، الأمر الذي يفتح الباب للتمييز الجنسي، ففي كتابها Eloquence in an Electronic Age: The Transformation of Political Speechmaking (1990) اعتبرت "كاثلين هال جاميسون" أن التاريخ يتضمن العديد من المحاور وأحدها أنه "يتعين على المرأة أن تكون هادئة"، خاصة أن "المجتمع الأبوي يضبط آذاننا للاستماع إلى أصواتٍ معينةٍ بشكلٍ مختلف"، إذ يتم تصنيف أصوات النساء على أنها "ضجيج" أو "أصوات غير مرغوب بها".
القوة وراء صوت المرأة
"لا أحد يرغب في الجلوس بالقرب من إمرأةٍ صاخبةٍ"، كما تسخر "فيف غروسكوب" في مقالٍ لها ورد في صحيفة الغارديان البريطانية. انطلاقاً من تجربتها الشخصية، اعتبرت "فيف" أنه في الحياة اليومية، هناك شيء مزعج وغير مريح وراء نعت المرأة بـ"صاخبة"، وكأننا نجزم بأنها لا تهتم بمن حولها، وبما قد يفكره الناس عنها:"لكي تسمحي لنفسك بأن تكوني أنثى صاخبة، يجب أن تكوني "سيكوباتية لإيقاف تعاطفك وذكائك العاطفي من أجل أن تحبي صوتك وتستحوذي على مساحةٍ كبيرةٍ". وأشارت "فروسكوب" إلى أن عبارة "رجل صاخب" غير موجودة ولا تتردد على مسامعنا، لكون الرجل يسمح لنفسه بالتكلم بصوت عال، في حين أن المرأة يتم في الغالب إسكاتها.ولكن هل قوة النساء تكمن في نبرة الصوت فقط؟
لقد استخدمت الحركة النسوية كلمة "الصوت" للإشارة إلى مجموعةٍ واسعةٍ من التطلعات والمطالب، خاصة حرية التعبير، وقد أصبحت هذه الاستعارة منتشرة جداً ومتماسكة في الخطاب النسوي لدرجة أننا نسينا بسهولة الأبعاد المادية الكامنة وراء صوت الأنثى.فبالرغم من هذا التمييز في التعاطي مع النساء، فإن مفهوم "المرأة الصاخبة" قد تغير بشكل كبير في العقدين الماضيين، فمع قيام "ميشيل أوباما" بنشر سيرتها الذاتية التي تضمنت اعترافاً شخصياً:" أعترف بذلك: فأنا صاخبة أكثر من متوسط البشر وليس لدي أي خوف من إبداء رأيي. هذه السمات لا تأتي من لون بشرتي بل إيماناً مني بذكائي الخاص"، بات من الواضح أن هناك جيلاً جديداً من النساء يطمح إلى إعادة تعريف مصطلح "صاخبة". وأشارت الكاتبة إلى أنه بفضل المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي حدث تحولٌ كبير في السنوات العشرين الماضية في مسألة تواصل النساء والكشف عن مواقفهنّ في العلن، فقد تحدث العديد من النساء النافذات، على غرار الأخصائية النفسية "إليزابيث جيلبرت" صاحبة كتاب Eat, Pray, Love عن كيفية إسماع صوتك الهادىء في خضم عالمٍ صاخبٍ. واختتمت الكاتبة مقالها:" الأوعية الفارغة تصنع جلبة عالية" و"السكوت قاتل"، يجب على النسوية الحديثة أن تقف في الوسط بين هذين النقيضين:" لا تحدثن ضجيجاً من أجل الضجيج نفسه، ولا تصمتن أيضاً. فهناك الكثير من التجارب التي يتعين القيام بها في هذا المجال".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...