شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"لسه عم تسجل": 400 ساعة مصورة تجرّد سوريا لترى كلّ الأطراف بعضها عارية صريحة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 9 نوفمبر 201806:53 م
يبدو فيلم "لسه عم تسجل" محطة هامة في تاريخ السينما التسجيلية السورية التي قامت على فكرة إخراج وإظهار الصورة التوثيقية من أماكن الصراع التي يصعب، ويمنع، ويعاقب أي إخراج للصورة منها إلى الإعلام، أو السينما أو الفن. قال المخرجان غياث أيوب، وسعيد البطل عن الفيلم في لقاء مع وكالة فرانس برس : "مع النقص الحاد في التقارير التي تصدر من داخل سورية، كان لابد من وجود شهود على ما يحدث"، وأضاف سعيد البطل: "لقد قمنا بذلك لغياب وسائل إعلام فاعلة في سورية". الفيلم الذي صور بين عامي 2011 - 2015 في مدينة دوما في ريف دمشق، اعتمد على 400 ساعة مصورة، تلتها سنتان من العمل المونتاجي للوصول إلى الصيغة النهائية للفيلم الذي تقارب مدته الساعتين. ويعتبر محطة هامة في هذا النوع السينمائي لأنه ضم أغلب التقنيات، والموضوعات، والأساليب، والقصص التي تكررت في التجربة السينمائية السورية في تصوير مناطق الحرب. وصفه موقع Filmidee للنقد السينمائي بـ"إنه بورتريه ذاتية لجيل متعطش ليروي قصته من داخل الحرب". https://youtu.be/AYOnsi03IWw

صانعو الأفلام من زمن الحرب

قامت السينما التسجيلية للحرب السورية على اعتقاد جامع بين صانعي أفلامها، بإعتبار الصورة - الصوت وثيقة أرشيفية وتاريخية، في الآني تنقل الحدث السياسي والاجتماعي، وفي التاريخي تحفظ الحدث السياسي والاجتماعي للذاكرة. وهكذا يبدأ فيلم "لسه عم تسجل" بمشهد لأحد شخصياته الأساسية، "سعيد" وهو يقدم دورة تصوير لمتدربين من دوما، فيقول فيها: "الصورة خط الدفاع الأخير ضد الزمن، الصورة التي نلتقطها الآن هي وبعد خمسين عاماً، وثيقة مستمرة عن هذه اللحظة، اللحظة التي التقطت فيها". هكذا يعلن أحد صانعي فيلم "لسه عم تسجل" عن علاقة الصورة والوثيقة، إحدى المزايا الأساسية للسينما التسجيلية للحرب السورية.
حتى السيجارة تحت الحصار أصبحت تعد رفاهية ومتعة بحاجة إلى التوثيق والتصوير فنرى في مشهد شخصيات ثلاثة تتقاسم السيجارة الواحدة حتى آخر نفس.
حوار يجري بين مقاتل من المعارضة، ومقاتل من النظام على خط الجبهة عبر موجات هاتف التوكي ووكي يسجله الفيلم الوثائقي "لسا عم تسجل"
لاشك أن للمكان في السينما التسجيلية أهمية محورية، فما بالنا إن كانت هذه الأفلام عن مناطق تعيش تحت الحصار وفي الحرب؟ لقد حاولت السينما التسجيلية للحرب السورية أن توثق الأمكنة، بكل ما تحمله الأمكنة من أحداث، وعوالم صوتية سمعية، وموضوعات، وقصص. مثلاً فيلم "مسكون" (2014، لواء يازجي) نقل حال الحصار من منطقة برزة في دمشق، و"أرض المحشر" (2017، ميلاد أمين) يلعب هذا الدور مع مدينة حلب،  أما فيلم "حب تحت الحصار" (2015، مطر اسماعيل) فيركز على حصار ريف دمشق، والآن "لسه عم تسجل" هو عن مدينة دوما في ريف دمشق أيضاً. فيلم لسه عم تسجل 01 (8) أراد صانعو الفيلم له أن يبدأ من لحظة خروج مدينة دوما عن سيطرة القوات الحكومية، وإدارتها من قبل الثوار. هي حكاية منطقة إذاً، دوما في ريف دمشق، يبدأ الفيلم في لقطاته الأولى بالجثث، بتراكم الجثث في المنطقة، وفي محاولة السكان تكفينها ودفنها، ما يشعره المتفرج بداية صادمة وقاسية في الفيلم. في إحدى المشاهد المتعلقة بالتعامل مع الضحايا، يحاول مصور ومذيع أن يقفا إلى جانب براد الجثث ليصورا تقريراً يخبر عما يجري للإعلام، لكن المذيع كلما أراد التفوه بكلمة يختنق ويمنعه الغثيان من التلفظ بما يريد. أما الحدث السياسي والاجتماعي الذي تعايشه مدينة دوما، ويوثقه الفيلم، يبدأ مع خروجها من سلطة القوات الحكومية، وتحوّل جزء كبير من أبنائها إلى حمل السلاح، وتعرضها للقصف من طائرات الميغ الحربية، مما يجعل الجوع واحدة من الموضوعات التي تتكرر في الفيلم، حتى السيجارة تحت الحصار أصبحت تعد رفاهية ومتعة بحاجة إلى التوثيق والتصوير فنرى في مشهد شخصيات ثلاثة تتقاسم السيجارة الواحدة حتى آخر نفس. هكذا يصبح التدخين فعلاً سينمائياً ضد الحرمان.

صانع الفيلم هو مصوره، وهو شخصيته الرئيسية

"لسه عم تسجل" هو حكاية أربعة طلاب جامعيين سوريين (غياث، وسعيد، وميلاد، وغيث)، هم الشخصيات الرئيسية في الفيلم، وهم أنفسهم حاملو الكاميرا، وإثنان منهم هما مخرجا الفيلم (غياث أيوب وسعيد البطل). تداخل الأدوار هذا بين المصور والشخصية الرئيسية ومخرج الفيلم، اتبع كأسلوب في عدد من أفلام السينما التسجيلية عن الحرب السورية، مثلاً: "الرقيب الخالد" (2014، زياد كلثوم)، و"مسكون" (2014، لواء يازجي)، و"على حافة الحياة" (2017، ياسر قصاب). في العدد الأول من مجلة A Syrious Look، كتب المسرحي زياد عدوان مقالاً يركز فيه على " الذاتية " في السينما التسجيلية للحرب السورية. شخصيات "لسه عم تسجل" الأربعة، أغلبهم يدرس الفنون أو يعزف الموسيقا، تؤثر فيهم أحداث الحراك الشعبي السوري في العام 2011، وتشكل وعيهم السياسي. ليتجهوا إلى الأنشطة الإعلامية والمدنية والسلمية. تتنوع أنشطتهم من توثيق الضحايا بالكاميرا، إلى توثيق النزاعات المسلحة مرافقين للمقاتلين. في إحدى المشاهد يحاولون إيقاف انتقام الثوار المنتصرين في أحد المعارك على مقاتلي القوات الحكومية الواقعين في الأسر، يحاولون ما أمكنهم ألا يسرق الثوار الممتلكات العامة، وذلك في بداية الفيلم. ومن ثم يتابعون الحديث مع المقاتلين الثوار عن حكاياتهم وأحوالهم الخاصة في سبيل أنسنتهم، يحاولون تلوين جدارن المدينة المنكوبة، وينظمون للأطفال أنشطة تدريب على الرسم والتلوين. توثيق الشخصيات لطريقة حياتهم ولحكايتهم لا يقف عند إظهار الأعمال التي يؤديها كل منهم، بل كذلك هناك مشاهد تقدم الشخصيات نفسها في حفلات من السهر، والسكر، والموسيقى، والتدخين. نتابع مشروع تخرج أحدهم في كلية الفنون من قسم النحت، نلمح تأثر أعماله النحتية بمشاهد تهشم أجساد الضحايا. إنهم يصنعون نموذجاً واضحاً للفنان - للثائر. وبما أن حاملي الكاميرا، وصانعي الفيلم هم أنفسهم الشخصيات الرئيسية، فإن كان لهذا الفيلم أن يحكي أمثولة، فهي تلك التي تبين أن هؤلاء الذين ينمّطهم المجتمع بـ"الهيبيز" لشعورهم الطويلة، وطريقة لبسهم، ونوعية الموسيقى التي يسمعونها، وإهتمامتهم بالفن، هم فاعلون بجدية في النزاعات والحروب. هذا ما دفع بالناقد راشد عيسى أن يكتب عن فيلمهم بأنه عن جيل شجاع، وهذا ما يجعل أحد حملة السلاح في الفيلم يقول أمام الكاميرا: "هؤلاء حملت الكاميرا هم من يجب التخلص منهم بعد قوات الأسد، لأنهم هم من سيصنعون الثورة التالية علينا".

ابتكار القصص والشخصيات

أصعب ما يواجه فيلماً تسجيلياً، قائماً على 450 ساعة من التصوير، هو أمران: إمكانية العثور بين المادة الفيلمية على حكايات تروى، وعلى شخصيات يتابعها المشاهد. يقول غياب أيوب: "بصعوبة عملنا على خلق شخصيات في الفيلم". هنا يبرز في "لسه عم تسجل" جهد كبير على مستوى المونتاج، أبرز عناصر الفيلم ولاشك، هي العملية المونتاجية التي حاول ما أمكن القائمون عليها أن يخلقوا من المادة الفيلمية، قصصاً تروى وشخصيات تحمل حكاية. كيف يسعى المخرجان إلى خلق القصص والشخصيات؟ أولا: عبر متابعة شخصيات بعينها في حكايتها المسرودة في الفيلم، وهنا تظهر شخصية المقاتل - الفران أبو عبدو و شخصية الفنان - الثائر ميلاد. ثانياً: عبر مونتاج يعيد بين الفنية والأخرى في الفيلم حكاية شخصية تتكرر، فتوحي للمتلقي بتماسك بين الحكايات، مثل حكاية الرياضي الذي لا يتوقف عن ممارسة الرياضة حتى تحت القصف. أما ثالثاً: فهي بجعل اللقطة الواحدة حكاية بحد ذاتها، مثل أن تصادف الكاميرا امرأة بين الأبنية المدمرة. تطلب المرأة من الكاميرا تصويرها علّ الفيديو يصل لوالدتها، ترسل أمام الكاميرا معايدة لوالدتها، وتدعو لها بالسلامة، وقبل أن ترحل ندرك أن والدتها لا تبعد عنها سوى حي واحد، لكن يفصل بينهن خطوط الجبهات المتقاتلة بين الحكومة والمعارضة.

الفران يترك السلاح

يستعير المخرجان غياث وسعيد من فيلمها السابق "على خط التماس" حكاية المقاتل أبو عبدو، ذي الشخصية الحيوية، مقاتل لكنه يحب الرقص، والغناء، وفيروز. إنها حكاية تعترف لـ"أبو عبدو" المولع بالسلاح، بحسه الكوميدي، وقبل نهاية الفيلم بقليل نراه يعمل فراناً، يترك السلاح ويعود لعمله القديم. هذه قصة يمررها صانعو الفيلم لسؤال حمل السلاح من عدمه الذي وقف أمامه الكثير من السوريين حائرين في أحداث السنوات الماضية. في إحدى مشاهد الفيلم يسأل صحفي أجنبي سعيد من دوما إن كان يحمل السلاح؟ كلا، يجيب سعيد ويبين أن يفضل أن يحمل الكاميرا.

تجارب الحرب السورية

تجسد حكاية شخصية ميلاد في الفيلم ما يمكن أن نطلق عليه "تجارب الأمل في الحروب"، فبمقدار ما قدمت الحرب السورية من حكايات مأساوية، بمقدار ما تم التركيز أيضاً على تجارب وحكايات الأمل، واستديو موسيقي تحت القصف هو نموذج، حيث يسجل سعيد أغنية راب كتبها عن الوضع السوري، ويوجهها لمغني ومؤلف أغان راب لبناني هو الطفار. مما يطعّم فيلم "لسه عم تسجل" بمقطوعات موسيقية بين الفينة والأخرى، تُؤدى أغنية، وتُعزف تقاسيم على العود في الإستيديو، وبالتالي في الفيلم أيضاً. يتضمن الفيلم أيضاً مساحات لكي تعبر الشخصيات عن نفسها بلسانها وبشكل مباشر. فنسمع رأي الشخصيات في الثورة، ولكن الأهم أيضاً أننا نسمع مشاعرهم الكئيبة، مخاوفهم، وانتقادهم للحال التي وصلوا إليها، يقول ميلاد للكاميرا: "نعم، حتماً سأخرج من المنطقة، ولن أبقى تحت الحصار. السبب نفسه الذي دفعني للقدوم إلى هنا، هو السبب الذي سيدفعني للرحيل، وهو رغبة الهروب إلى مكان أفضل".

حوار بين متحاربين

من بين قصص "لسه عم تسجل" المعبرة، التي يركز عليها تريلر الفيلم، هو ذلك الحوار الذي يجري بين مقاتل من المعارضة، ومقاتل من النظام على خط الجبهة عبر موجات هاتف التوكي ووكي. إنها قصة إنسانية مميزة، حوار صدفة بين شخصين من جانبين الحرب. [caption id="attachment_171045" align="alignnone" width="700"]من "لسه عم تسجل"لسه عم تسجل 1 "لسه عم تسجل"[/caption] يكشف هذا الحوار عن الهوة االواسعة التي تفصل بين أبناء المجتمع السوري الواحد. كل منهما يرى الآخر عبر منظار ما يقدمه الإعلام المتصارع بين جبهتين في سورية. كل منهما يرى الآخر بصورة منمطة، مشيطنة، ومحكوم عليها سلفاً. مشهد وثيقة في الفيلم عن مقدار حاجة السوريين إلى الحوار، ويكشف عن العديد من الصور النمطية وأحكام القيمة التي يتوجب العمل على تذويبها وإزالتها لكي ترى أطراف المجتمع السوري بعضها، بوضوح.  على مستوى التقنيات، يتضمن "لسه عم تسجل" جميع الخصائص التي قامت عليها أفلام التسجيلية للحرب السورية؛ الكاميرا المهتزة، المكان المصوّر فورياً، واقعية الحدث، ومشهدية الدمار والخراب التي تضاهي أشد التصميمات الغرافيكية دقةً ومصداقية. في فيلم "مسافر حلب استانبول" (2017، للمخرجة التركية أنداش أوغلو) تظهر لقطة بانورامية لمدينة حلب في أبنية تحت القصف وأحياء مدمرة، بعد ثوان تميز عين المشاهد أن اللقطة مصنعة سينمائياً، تقنيات بصرية أو ماكيت كرتوني ضخم يمثل المدينة. حينها يشعر المتابع السينمائي كم أضافت السينما التسجيلية للحرب السورية من حساسية عالية لعين المتلقي تجاه تجسيد الخراب والدمار، مثل فيلم "ذاكرة باللون الخاكي" (2016، الفوز طنجور)، وغيرها. تكرر تبجيل الكاميرا في النشاط الإعلامي والسينمائي السوري. في فيلمه "الرقيب الخالد" (2014) يجعل زياد كلثوم الكاميرا  الرقيب الخالد. وفيلم "لسه عم تسجل" يهدى في نهايته: "إلى كل من غادر الحياة وهو يحمل كاميرا". لكن المشهد الأخير في الفيلم، يسرد برهاناً قاطعاً، رغم قسوته، على أهمية التصوير والكاميرا. فنرى ثلاث شخصيات منهم حامل الكاميرا يسيرون بين الأبنية المدمرة في دوما. يسأل ميلاد: لماذا تصور؟ يجيب المصور: للذاكرة. على الفور تردي رصاصة قناص المصورَ أرضاً، يقع المصور أمام الكاميرا يتلوى ويحاول استعادة قواه، الكاميرا تستمر بالتسجيل حتى خارج عن سيطرة المصور، إنها تسجل اللحظات الأخيرة من حياة المصور نفسه. لقد أصبح المُصور مُصوراً بسبب وجود الكاميرا، التي لا تزال تسجل، ومن هنا يأتي عنوان الفيلم. الفيلم من إنتاج مؤسسة بدايات للإنتاج السمعي بصري، وتجمع رٌسل، وبلينكر للإنتاج. حاز الفيلم على خمسة جوائز في مهرجان فينيسا - إيطاليا، وعلى جائزة أفضل فيلم دولي طويل في مهرجان التشيلي السينمائي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image