تقدّمت بسرعة من الباب لأخلع ما عليّ من ملابس. ليلة رأس السنة الأولى في عمّان، فجر الأوّل من كانون الأول/ ديسمبر 2018 في تمام الساعة الثالثة صباحًا. كنت أشعر بالعطش بعد ليلة صاخبة بالمشروبات المتنوّعة والأصدقاء المجتمعين حول طاولة يشتمون الأنظمة. أمرّ عبر غرفة الجلوس إلى المطبخ، أسمع نداء خافتًا، لا أعلم كيف أصفه بدقّة وكأنّ أنينًا صارخًا اقتحم عتمة الليل. توجّهت إلى شباك المطبخ، نظرت إلى مصدر الصوت في المبنى المقابل. غرفة وضوء خافت وخيال فتاة تمسك بالسور، تئنّ وتطلب مني المساعدة. تراجعت قليلاً، لا أزال أعاني من الصداع ولكن لا أظنّ أنّ كلّ ما شربته جعلني أتوهّم بأن هنالك فتاة تسعى باستماتة للنجدة. تقدّمت من النافذة مجدّدًا وسألتها وأنا أنظر حولها وحولي، كيف أساعدها، قالت: "ساعديني اتصلي بأخوي".
كاد قلبي أن يتوقف عن النبض لدى سماعي بكاءها. ماذا أفعل؟ أأطلب المساندة من الجيران؟ أخوها الذي لا أعرف من هو وأين يكون؟ أخاف أن أحدث جلبة فأجعلها ضحيتها! سألتها أن تشير اليّ بيديها واصفة لي رقم هاتف أخيها، وقامت بذلك بصعوبة وكرّرته وهي تردّده على مسامعي خشية منها أن أخطىء، أن أحرمها فرصتها الأخيرة في النجاة! الليل حالك والجوّ عاصف قليلاً وكلتانا خائفتان من مجهول قد يحدث.
حاولت الاتصال مرارًا بالرقم، لا من جواب، كرّرت المحاولة وناديتها كي أقول لها أنّني سأتصل بالشرطة ولكنّها أومأت اليّ بالسكوت… أغلقتْ النافذة بسرعة، جلستْ على سريرها، وانطفأ الضوء.
لم أستطع النوم ليالي عديدة بسلامٍ، أدركت أنّي خنت قضيتي يومها - أنّ ذاك العهد الذي قطعته على نفسي بأنّي لن أسكت عن عنفٍ ضدّ امرأة مهما كان الظرف ومهما كانت درجة معرفتي بها، قد سقط مع سقوطها باكيةً على السرير.
أعود بعد تلك الحادثة إلى موقف شهدته في بيروت منذ حوالي عام ونصف. كنت في سيّارتي متجهة إلى النادي الرياضي، وعند تقاطع "المريجة" من بعيد يلوح رجل ضخم يمسك شعر "امرأة" يجرّها خلفه ويطلق عليها أقبح الشتائم. المارّة توقفوا كمن شهدوا "صندوق الفرجة"، العيون مبحلقة والأفواه على رغم اتساعها صامتة…. كنت أنادي في السيارة: "حدا يشيله عنها، حدا يبعّده!". وأتاني الردّ: "يمكن مرته أو أخته شو خصنا نحنا، يصطفلوا ببعض!!". سارعت إلى إطلاق البوق ونزلت من السيارة، موبّخة من حولي، صارخة فيه أن يتركها، فأمسك مسدسًا كان على خصره وقال: "ابن المرا اللي بدّه يقرّب رح قوّصه بأرضه!"
صعد على دراجة ناريّة واختفى بين الجموع، هي خلفه تختنق في دموعها محنيّة الرأس وأنا لم تتوانَ دموعي عن النزول على خديّ كمن فقدت عزيزاً للتوّ، وكأنّني أرى قلّة حيلتي، ضعف كلّ هذه الأمة، كلّ هذا المجتمع، كلّ الحروب والمجازر ملخّصة في مشهد رجل يهين امرأة.
نهاية شهر أيّار 2018، بثّت حلقة من المسلسل الذي حاز ضجة جماهيرية كبيرة "الهيبة"، تحت عنوانٍ ترويجيّ على mbc: "سميّة تدفع ثمن ثرثرتها". وبعيدًا عن نقد وانتقاد ما يحويه المسلسل من قيمة فنية وحقيقة تحاكي المجتمع، استفزّزت كثيرًا، أصبت بخيبة من كلّ القراءات التي قمت بها عن الحلقة وذاك المشهد الذي تتعرّض فيه "سميّة" الشخصية التي تلعب (نيكول سابا) دورها في المسلسل، إلى الضرب المبرّح على يد زوجها "جبل" (تيم الحسن). هذه الحلقة حقّقت مشاهدات كثيرة، ولاقت استحسانًا وحديثًا من الناس على مواقع التواصل. معظم من شاهد الحلقة أعجبه فعل البطل الهمام والشهامة الموصوفة في ضرب امرأة "ضرب زوجته دفاعًا عن شرف العائلة". معظم المدافعين أعطوا هذا الفعل شرعيّة بحجج حماية الأسرة وأسرارها، بحجج أنّ الضرب "المبرّر" مختلف عن أيّ عنف، بل هو ليس بعنف، هو تأديب.
في العام 2018 أعود مرّة جديدة في الذاكرة إلى خمس سنوات مضت على مقتل رلى يعقوب ابنة 31 عامًا، أمّ لـ 5 أطفالٍ. 5 سنوات، لم تحمل معها أيّ تغيير تجاه الفعل المرتكب بحقّها وحقّ أبنائها بحرمانهم والدتهم هذه المرّة لا في محكمة شرعيّة ولا في قوانين مجحفة بحق المرأة كمواطنة أصيلة في هذا المجتمع بل في نهاية مأسوية وسكوت مقصود عن الجريمة . لا جديد مرّ خلال هذه السنوات، "نساء" كثيرات ضربن وتعذّبن وقتلن ببرودة دمّ وأعصاب، أرقامٌ تحالُ إلى ملفّات في أدراج المحاكم وقضايا مفتوحة تنتظر شجاعةً ربّما لصون عدالة يبحث أهل وأصدقاء الضحايا عنها. ما تغيّر اليوم هو أنّ زوج رلى، قاتلها، أطلق سراحه.
كاد قلبي أن يتوقف عن النبض لدى سماعي بكاءها. ماذا أفعل؟ أأطلب المساندة من الجيران؟ أخوها الذي لا أعرف من هو وأين يكون؟ أخاف أن أحدث جلبة فأجعلها ضحيتها!
أعود بعد تلك الحادثة إلى موقف شهدته في بيروت منذ حوالي عام ونصف. كنت في سيّارتي متجهة إلى النادي الرياضي، وعند تقاطع "المريجة" من بعيد يلوح رجل ضخم يمسك شعر "امرأة" يجرّها خلفه ويطلق عليها أقبح الشتائم.
سارعت إلى إطلاق البوق ونزلت من السيارة، موبّخة من حولي، صارخة فيه أن يتركها، فأمسك مسدسًا كان على خصره وقال: "ابن المرا اللي بدّه يقرّب رح قوّصه بأرضه!"
معظم المدافعين أعطوا هذا الفعل شرعيّة بحجج حماية الأسرة وأسرارها، بحجج أنّ الضرب "المبرّر" مختلف عن أيّ عنف، بل هو ليس بعنف، هو تأديب.
لا جديد مرّ خلال هذه السنوات، "نساء" كثيرات ضربن وتعذّبن وقتلن ببرودة دمّ وأعصاب، أرقامٌ تحالُ إلى ملفّات في أدراج المحاكم وقضايا مفتوحة تنتظر شجاعةً ربّما لصون عدالة يبحث أهل وأصدقاء الضحايا عنها. ما تغيّر اليوم هو أنّ زوج رلى، قاتلها، أطلق سراحه.
رلى قامت بمهمّتها على أكمل واجب وهي تنظر إلينا من مكان ما بعيد، فتحت علينا كلّ تلك الأبواب لنرى حجم الأورام الخبيثة التي أصابتنا. أظهرت لنا كيف أنّنا أمسينا تماثيل تقرأ الصحف والمانشيتات التي انتشرت على أثر الحكم، أصنامَ ترى دموع أمّها على التلفاز وهي تتحسّر على خسارة لن تعوّضها لها أيّ مواساة، وحرقة لن تقوى على بلعها ولو أتى الحكم لمصلحة ابنتها. نشاهد أمّ رلى تمسي للمرة الثانية ثكلى من مجتمع قرّر المضي قدمًا عن حادثة اعتاد سماعها فألفها.
لم أكن خائفة قطّ قبل اليوم من موت على يد قاتل مغترّ بقانون عنصريّ ذكوريّ يحميه، ولكنّي وأنا أكتب متردّدة هذا النص، أرتعب أن تطوى صفحة رلى وكثيرات غيرها، أن ترحل كلّ تلك الأصوات المطالبة بالحريّة والعدالة، أن أستطيع النوم مساءً غير آبهة لما حدث لجارتي الخائفة وتلك المرأة المهانة في الضاحية الجنوبية. أرتعب لمجرّد التفكير بأنّي أنا أو أمّي أو ابنتي أو صديقتي أو … قد نمسي يومًا ما أثمانًا سهلة تُدفع، تُحاسب بعد الموت بشرفٍ يراد تلطيخه أو أعضاء تناسليّة يراد تشويهها بمسبّات، وتضيع ذكرانا هباء بحكمٍ قضائي موسوم باسم الشعب المتواطىء مع الجلاد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون