تزدحم دولة الفيسبوك بالأشباح. بهذا الوضع القائم اعترفت إدارة الموقع في أكثر من تصريح، مثلاً خلال الربع الأوّل من 2018 ألغت الشركة نحو 500 مليون حساب "وهمي". كمواطنين في أكبر دول السوشيال ميديا، نميل للتصديق بأنهم بشر مثلنا وهو ما يراهن عليه مخترع الشخصية سواء كان الحساب بواسطة إنسان أو برنامج إلكتروني Bot.
الغرض من هذه الحسابات المزيفة يراوح بين سياسي للتأثير على الناخبين وتشكيل الرأي العام وبين السرقة والاحتيال أو التجسس وغيره. ما حدث مع "سارة رحمة" لم نعرف غرضه على وجه الدقة. لكن دعوني أخبركم عن التفاصيل؛ "سارة رحمة" هي شخصية مزيفة، ابتكرها فنان مغمور، أو لنقل محدود الشهرة، وأنشأ لها حسابًا عبر فيسبوك مدة عامين، وخلق لها حياة وشخصيات وهمية تلعب أدوارًا مختلفة، من زوج وأصدقاء، ثم قرر في النهاية أن تموت الشابة. إنها قصّة. بداية، وتطوّر ونهاية، وعدد كبير من المتابعين/ات.
المشهد الأوّل: الأرملة الوفية
برومانسية مفرطة في عصر ارتفاع نسب الطلاق والخلافات الزوجية، تنقل لنا "سارة رحمة" رسالتها لزوج توفي وتركها في بداية شبابها، تسرد ذكرياتهما السعيدة في أوسلو، عازمة على الوفاء لها ما تبقى من العمر. كان هذا المنشور بمثابة تعريف درامي بالشخصية. وكان اختيارًا موفقًا، إذ عكست هذه الصورة رسالتها كسيدة قوية ومحبّة وجريئة. [caption id="attachment_170859" align="alignnone" width="350"] الصورة المستخدمة لحساب سارة، لا نعرف لمن الصورة فعلًا[/caption]الحبكة: شبكة علاقات اجتماعية واسعة وانتقائية
خلال عامين، وبواسطة مجموعات على الفيسبوك، أنشأ الفنان المغمور لشخصيته الوهمية، سارة، شبكة علاقات واسعة اختار فيها الناشطات والمثقفات والأكثر تأثيرًا في البلد. حوار ثابت يبدأ به بتعريف سارة ثم يدخل في أي حوار يقود دومًا لاسمه كفنان، من ثم لا بد أن تذكر سارة صديق زوجها، المطرب علاء في إطار ما ظنه الكثيرون لاحقًا بمثابة دعاية. تقول السيدات اللواتي "عرفنها"، أنها بحثت عن عمل للعاطلات في أكثر من مرة. هذا الاهتمام الشخصي والحميم جعلها في صفوف الذين اختاروا قضاء حوائج الناس ومساعدتهم، وهل هنالك ما هو أنبل من ذلك!؟ بغض النظر عما حصل فيما بعد، وهل تم إيجاد عمل لمن بحثت لهن عنه، لكن المحاولة تكفي.فصل الختام
يفاجأ اصدقاء سارة في يوم من الأيام بإصابتها بمرض السرطان. وكما هو متوقع من شخصية مرسومة لأن تكون "مثالية"، تواجه البطلة المرض بشجاعة وتتمسك بالحياة حتى لحظات ما قبل النهاية، حين تخبرنا أنها ترى الوجه الجيد من الموت في لقاء الأحبة بالاشارة لزوجها "وليد". تموت "سارة رحمة" فينعيها الداني والقاصي، ليعرفها حتى من لم يسمع بها خلال عروض المسرحية. ينزل الستار ولكن لدهشة علاء يتوقف الجمهور عن التصفيق عند ارتفاع بعض الأصوات التي تطالب بمنزل للبطلة تقبل به التعازي.بعد المسرحية: البحث عن سارة رحمة
قبل أن تُرسل التعازي، تضاربت أقوال، منها أنها ستدفن في أديس أبابا، حسنًا هذا لن يمنع صديقاتها من زيارات أهلها في السودان وتقديم واجب العزاء لكن لا أحد يعلم أين هم؟ بل لا توجد من التقت بسارة الصديقة الأسفيرية على أرض الواقع. وتتبعًا لخيوط قصة هذه الشخصية الغامضة، بحثت الصديقات عن خبر الوفاة في وكالة الأمم المتحدة حيث تعمل سارة، وفوجئن بأن لا وجود لسارة رحمة بين العاملات فيها! [caption id="attachment_170855" align="alignnone" width="700"] لم توجد معلومات عن سارة في UN[/caption] حفظًا لماء وجه الأسرة المعروف عنها النزاهة وحسن السيرة، خرج ابن عم الفنان بتصريح عبر خدمة بث الفيديو المباشر على فيسبوك وأكد أصابة قريبه بمرض نفسي، مستشهدًا بأقوال أطباء نفسيين مشهورين على نطاق السوشيال ميديا. بعد ذلك، نفت إحدى الطبيبات هذا الخبر، مشددة على عدم صحة ما نقله على لسانها، وأكدت أنها لم تقم بتشخيص الفنان ولم تلتقِ به وليس من المهنية أن تحلل حالته عن بعد. هذا عن أسرتها، بينما لم يصدر أي بيان من الحزب السياسي الذي غنى فيه المطرب لأعوام ضمن الكورال الموسيقي وتفاوتت الآراء في أصل انتسابه للحزب.القانون والتحقيق الجماعي
بعد أربعين سارة رحمة، والأربعون هو "اليوم الذي يتصدق فيه عن الميت في السودان وتسود فيه أجواء تأبين بسيط" فتح بلاغ ضد المؤلف. لم يرد في الخبر من هم رافعو الدعوى. العقوبات تبنى على الضرر. سيقول البعض من المتضرر هنا؟ هل التعلق بشخص ومحبته ثم اكتشاف أن كذبه جريمة؟ هل يمكنك أن تنتحل شخصية غير موجودة؟ السبب لم يعرف بعد، وهو ما الذي دفع بعلاء لاختلاق الشخصية وكيف توفر له الزمن اللازم للمحافظة على حساب أداره بانتظام لمدة عامين قبل أن يغلقه صبيحة خبر الوفاة. ولأنه لا توجد شكاوى صريحة، أغلق التحقيق الجماعي واكتفى المختصمون بالاختلاف.لماذا يا علاء؟
البعض يصر على نظرية المؤامرة وربط الفنان بالنظام الحاكم، وعليه فهي إستراتيجية تجسس على نشطاء، وبالأخص ناشطات مثقفات ومهتمات بالشأن العام، وهي الشريحة التي سعت "سارة رحمة" لتوطيد علاقتها بهن. كثيرون ينظرون للأمر كمحاولة تسويق المشروع الفني للمطرب لأن سارة كانت تعرّف صديقاتها عليه وتمدحه وتدير الصفحة الرسمية له على فيسبوك. أو كما علّقت إحدى النساء، تبدو كتجربة اجتماعية. كم نبحث نحن عن الشخصيات التي تلهمنا وإلى أي مدى يمكننا التغاضي عن ثغرات الصيغة المثالية المعروضة على صفحات التواصل الاجتماعي لنحقق في داخلنا انتصار الخير وتأكيدات الجمال؟ هنا وهناك يبدي مراقبون مخاوف أكبر، ماذا لو أنها تجارة بشر؟ إلى أيّ مدى استغلت سارة علاقتها؟ هل نعلم حقًا مصير كل من "تعرفهن"؟ ألّا يمكن أن يكون هناك ضحايا يكتمن آلامهن بصمت!الغرض من هذه الحسابات المزيفة يراوح بين سياسي للتأثير على الناخبين وتشكيل الرأي العام وبين السرقة والاحتيال أو التجسس وغيره. ما حدث مع "سارة رحمة" لم نعرف غرضه على وجه الدقة.
خلال عامين، وبواسطة مجموعات على الفيسبوك، أنشأ الفنان المغمور لشخصيته الوهمية، سارة، شبكة علاقات واسعة اختار فيها الناشطات والمثقفات والأكثر تأثيرًا في البلد.
يفاجأ اصدقاء سارة في يوم من الأيام بإصابتها بمرض السرطان. وكما هو متوقع من شخصية مرسومة لأن تكون "مثالية"، تواجه البطلة المرض بشجاعة وتتمسك بالحياة حتى لحظات ما قبل النهاية
تموت "سارة رحمة" فينعيها الداني والقاصي، ليعرفها حتى من لم يسمع بها خلال عروض المسرحية. ينزل الستار ولكن لدهشة علاء يتوقف الجمهور عن التصفيق عند ارتفاع بعض الأصوات التي تطالب بمنزل للبطلة تقبل به التعازي.
بعد أربعين سارة رحمة، والأربعون هو "اليوم الذي يتصدق فيه عن الميت في السودان وتسود فيه أجواء تأبين بسيط" فتح بلاغ ضد المؤلف.
البعض يصر على نظرية المؤامرة وربط الفنان بالنظام الحاكم، وعليه فهي إستراتيجية تجسس على نشطاء، وبالأخص ناشطات مثقفات ومهتمات بالشأن العام، وهي الشريحة التي سعت "سارة رحمة" لتوطيد علاقتها بهن.وكالمعتاد، فإن فقاعة الصابون تلاشت وانتقل تركيز الجمهور للحدث التالي، أو كما يعتبره عدد لا يستهان به، ملهاة أخري يصوغها النظام الحاكم لشغل العامة عن سياسات اقتصادية تضيق الخناق على المواطن، فما إن تظهر أزمة في الأفق حتى تنفجر حادثة اجتماعية تلفت الأنظار والأسماع والعقول. قصص الشخصيات الافتراضية توالت في الأعوام الأخيرة ولن تتوقف، قبل سارة عرف المجتمع السوداني "حنظلة". إلّا إن حنظلة كانت عملية احتيال كاملة لا مراء فيها. وبعد سارة ستظهر أخرى. فلا أظن جهود الفيسبوك كافية. ينبغي لنا توخي الحذر، فليست كل سارة صاغها فنان، وما أكثر الأشباح التي يقف خلفها مجرم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...