حزام من الخضرة عريض، يشدُّ عليه الخناق سورٌ من الإسمنت والحديد، ونافورة مياه هجرتها الأسماك الصغيرة، ومقاعد تكسّرت ظهورها فلا يجلس إليها أحد! أروقة خربة أهملها المشاة والسائرون، وبقايا. لكأنك في "آخر ما تبقى من جنتي سبأ"(1)، إذا ذهبت لن تعود. ولكن، مهلاً، فهذه الحديقة "قديمة في الليل الطويل"(2).
وكعادة الجمال في هذه البلاد، أن يظلّ محتجبًا، يصعب على من لم يزر باب الوادي من قبل أن يكتشف هذه القطعة من الجمال النادر، فعلى الرغم من أنّ "حديقة براغ"(3) تتربع على مساحة هكتارين، إلا أنّ إحاطتها بسور حجري كبير، ومبان عمرانية من جهاتها الثلاث، يجعل العثور عليها اكتشافًا جميلًا. من هُنا، فلا يأتي لهذه الحديقة سوى من يرغب فيها فقط.
لماذا أتينا إلى هذه الحديقة؟
ولكن، لماذا أتينا نحن إلى هذه الحديقة؟ ليس من العادة، في مقالات الرأي، الاستغراق في وصف الجمال، وتعداد مظاهره، دون أن يكون له أثر مباشر في الحجاج. غير أننا لا نتحدث هاهنا عن قطعة جمالية، بل عمّا ترمز إليه. بالنسبة لي، تمثّل هذه القطعة من الأرض ذلك الفضاء الذي اتسع، في وقت ما، للجميع.
يصعب في بلد بدأت الاصطفافات الثقافية والعرقية تحتل مكانًا مميزًا في تجربته السياسة وحياته اليومية أن يؤسس لتعايش يتضايف فيه الجميع. يومًا بعد يوم يغيب الوطن، لتشرق بدله أُوَيْطِنَاتٌ(4) جديدة، تستجيب لهويّات متخيلة، كلها لا تؤمن بالحياة. بالنسبة لمن هم مثلي، من عاش في كنف حديقة براغ، عاش في وطن، عاش في الحلم.
وأن تعيش في عالم تتفجر فيه الهويات، ويلوذ كل فرد بما نشأ عليه، قيمًا، ولغة، وعادات، وتقاليد، ثم يتفرق المتشابهون مرة ثانية لاعتبارات الغنيمة وتوزيعها، فإنّ أحاديث التيه إمّا أن تتوجه إلى تفكيك هذه البنية التي لا تكرمنا إلّا بمزيد من التناحر، أو بمحاولة إعادة الاعتبار لكل ما يحمل في طياته بذور التعايش. من هنا، يكتسب الحديث عن الجماليات بعدًا نقديًا؛ ستصبح الحافلة ذلك الفضاء الذي يعبر بنا نحو عالم الجبّارين، وتصبح "المعايدة" أكثر من مجرد قول يجري على الألسن. وفي هذا الأفق، تصبح "حديقة براغ" الأنموذج الذي نتوسل به للحياة.
في مقاومة الموت
هناك، قرب المستوصف، في الجانب اليسار من الجهة العلوية للحديقة، تجلس مجموعة من النساء، كبيرات السنّ غالبًا، يتحدثن في كل شيء، من أخبار الحيّ، إلى أسعار الخضروات، مرورًا برغباتهن التي عفا عليها الزمان. في هذه الجلسات يعد الحديث عن اليومي، الراهن، الإمكان الوحيد. هذا التقليد ضارب بالقدم في ثقافتنا الشعبية، ونطلق عليه لفظ "التشماس"(5)، وهي عادة تتلخص في الخروج، حين تشتد الشمس، إلى أسطح العمارات، أو شرفاتها على الأقل، للتعرض لأشعتها الدافئة، لساعات. تقول الأمهات هنا إنّ "التشماس" مفيد للصحة، وللبشرة، والنميمة. ما لا تقوله الأمهات هنا، وربما لا يستوعبنه حتى، هو أنّ هذا الخروج للشرفات كان تقدمة خروجهن إلى الفضاء العام، فيما بعد.
غير بعيد عن "قعدة" النساء هذه، وقرب نافورة المياه الرخامية، يجلس في جماعات متقاربة، قليلة العدد، كبارُ السنّ؛ الشيوخ الذين أعلن المجتمع عدم أهليتهم للحياة. في الجزائر، يعني التقاعد موتًا مبكرًا، ترتبط به طقوس مخصوصة، منها لزوم الجماعة في الصلوات، والتصدق على الأحفاد كل يوم بنصيب من الراتب، والإسراع بالذهاب إلى الحج، قبل فوات الأوان. مهمّشًا، وحيدًا، ماشيًا طول وقته، تجد السّتّيني في الجزائر، لا يرتاح إلا حين يجلس إلى مهمّشين آخرين مثله يقاسمونه لعنة الحياة.
وعبر طقس "الحكي"، يعيد هؤلاء العجزة الاعتبار لذواتهم، عبر التأكيد بالحَكَايا على "جودة الذاكرة" وعلى "عمرانهم" ما مضى من الحياة. يرتبط طرف من حديثهم كذلك بالسخرية، من أنفسهم، وخيباتهم، ومن الحياة. السخرية، كما يقولون هم، تسعة أعشار الحكمة، وبالنسبة لمشاهد من بعيد، لا ينقص هذه الجلسات سوى مصوّر بارع، لتصبح مسرحًا متكاملًا. مسرحٌ كتب على بابه "في مقاومة الموت".
الكرنفال الأخير
للزمن في هذا الوطن الصغير حضور غريب، فهو يقسم بين أولاده حصصهم منه، يحتفظ لنفسه بالصباح الباكر، لا يشاركه فيه أحد، ويكرم كباره بصباحات الشمس، أما أولاده الصغار، فلهم المساءات، والليل الطويل. شيئان لا تخطئهما العين: للجميع مكانه المحفوظ في الحديقة، وزوار الظهيرة مشاغبون.
لم يكن يسمح لنا، ونحن صغار، بالتجوال في الحديقة بعد الظهيرة، لأنها كانت، ولا تزال، مزارًا للعاشقين. العاشقون هكذا يسميهم هذا النص، ويسميهم المجتمع بأسماء غريبة، تدور كلّها على رفضهم، ورفض ما يقومون به. وبعيدًا عن الحكم بأحقية المجتمع في فرض قيم معينة على أفراده، أو غير أفراده، فإنّ لهذا الوطن الصغير، الحديقة، موقفًا مختلفًا. فهذه الحديقة التي ترجع إلى مئات السنين ترأف بالجسد، وتسعى لأن تكون تجربته مميزه. هكذا أفهم تناغم الأشجار وتمايلها بما يسمح بظهور "الاختفاء". خلف تلك الأشجار، وبينها، تتستر أجساد عارية كاشفة، لتمارس طقس الوصل، وصل الجسد، غير أنّه طقس يقوم في جوهره على النقص، لا على الكمال، كعادة التجارب الإنسانية في هذه القطعة من الأرض. فالعشّاق، في حديقتنا، مطاردون من قبل رغباتهم، وقوانين المجتمع وعاداته، وعناصر الأمن ذات الزيّ المدني، ثمّ ليس لهم من الزمن إلا أقلَّه: من زوال الشمس، حتى عصرها، حين يقدم الأطفال، وآباؤهم للعب معًا في الحديقة.
وكعادة الجمال في هذه البلاد، أن يظلّ محتجبًا، يصعب على من لم يزر باب الوادي من قبل أن يكتشف هذه القطعة من الجمال النادر.
تمثّل هذه القطعة من الأرض ذلك الفضاء الذي اتسع، في وقت ما، للجميع.
يصعب في بلد بدأت الاصطفافات الثقافية والعرقية تحتل مكانًا مميزًا في تجربته السياسة وحياته اليومية أن يؤسس لتعايش يتضايف فيه الجميع.
يومًا بعد يوم يغيب الوطن، لتشرق بدله أُوَيْطِنَاتٌ جديدة، تستجيب لهويّات متخيلة، كلها لا تؤمن بالحياة.
مهمّشًا، وحيدًا، ماشيًا طول وقته، تجد السّتّيني في الجزائر، لا يرتاح إلا حين يجلس إلى مهمّشين آخرين مثله يقاسمونه لعنة الحياة.
لم يكن يسمح لنا، ونحن صغار، بالتجوال في الحديقة بعد الظهيرة، لأنها كانت، ولا تزال، مزارًا للعاشقين.
العاشقون هكذا يسميهم هذا النص، ويسميهم المجتمع بأسماء غريبة، تدور كلّها على رفضهم، ورفض ما يقومون به.
الجزائر، وأنّ مفاهيم المراقبة والمعاقبة والسجن، تحكم غالب تجاربه. ما نغفل عنه ربما، هو أننا من أقل الشعوب التي لا تزال تتحفظ بمواسم من الكرنفالات. حديقتنا لا تزال تحتفظ بواحد، كرنفال يومي لا تطاله يد الرقيب، كرنفال يتخذ من الليل أفقًا للحياة.
في الليل، تغلق الحديقة أبوابها، الرسمية، ولا تُبْقِي سوى نصف سور، جانبي، مكسور؛ ليستخدمه الشباب، شباب الحي عادة، للولوج إليها. في الليل، تشهد الحديقة مهرجانًا من الكسر، كسر كلّ ما يؤمن به المجتمع، وسلطاته القيمية. في الليل، يجتمع كلّ من يكفر به المجتمع، ويؤخره عن غنيمته أو تقديره؛ الطلبة الذين لم يتمّوا دراستهم، العاطلون عن العمل العالة على عائلاتهم، العشاق الذين تعرضوا للخيانات، مدمنو الخمر والمخدرات، كلّ من يعتبره المجتمع حثالة ينحني لذلك السور المكسور، ويتجمع في حلقات تقوم بلعن العالم تارة، وبالغناء تارة، وبالرقص تارة، وبالتخطيط لـ"حرقتها" المقبلة تارة أخرى.
الكلّ في الحديقة مفتون بالحرقة، والحرقة لم تعد العبور في حافلة بحرية، شاهدت بعضهم يركبون الطائرة حتى تركيا، ومن هناك إلى اليونان، كثيرون صاروا يسافرون بعائلاتهم، ومن ثمّة لا يرجعون. وإن تسأل هؤلاء الشباب أليست لكم حديقة جميلة ترحب بكم كل يوم؟ يقولون: كلّ ليلة، وتفتح لنا فقط نصف جدار جانبي مكسور!
ليس سرّا أن الجسد يعاني في بلد مثل ملاحظات هامشية:
(1) عنوان قصيدة للشاعر السوداني محمد عبد الباري.
(2) ما بين مزدوجتين من بيت للشاعر محمد عبد الباري، في قصيدة "بكائية الحجر والريح"، وهو هنا كناية على أنّ الحديقة مرّت عليها ليال سوداء كثيرة، لكنها تشبثت بالحياة.
(3) لمزيد من المعلومات، راجع صفحة الحديقة على الويكبيديا.
(4) هذا تصغير لجمع "أوطان"، وهو مما قدحة الكاتب من رأسه، ولعلّ له أصلاً في مثل أصحابي وأصيحابي.
(5) يعود أصل الكلمة "التشماس" إلى طلب التعرض للشمس. وتساعد عليها صيغة "التفعال"، كالترحال، طلب الرحلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com