لفتَ الروائيُّ كمال الرياحيُّ في مقالتِه "رَبرِبْ كما تشاء، فالله لا يغضب! عن النُّكتِ المحرّمة في الجريدِ التونسيّ" والذي نُشر مؤخرًا في هذا الموقع، انتباهي للاشتراكِ القائم بينَنا في الأهواز وبين أهل الجريد في تونس؛ هناك تشابهٌ في التّعامل مع الربّ، لكنّ الاختلافَ هنا قائمٌ على التحدّي، وينحصر في مواجهةِ الموت؛ فمع رحيلِ كلِّ عزيزٍ منهم تتدفّق أحاسيسُهم ويخاطبون ربَّهم مباشرةً دونَ وسائط. وأوّلُ ما خطر ببالي الجملةُ التي تتردّد دون معرفةِ قائلِها "شلون تموِّتْ جارَك، وانتَ موصّي بسابعْ جار؟"؛ دلالة على حجمِ الفقد وسطوةِ الموت عليهم. فالله قد أوصى بسابعِ جارٍ، فكيف يأخذ الجار؟ وكأنّّ هذه الخصوصيةَ لا تحيد عن مناطقَ محصورة. فأهالي منطقةِ الجريد في تونس امتلكوا النكتةَ لصياغة جملتِهم التي تخاطب ما بعد الطبيعة، بينما في المنطقة التي بحثتُ فيها تحدّوا كلَّ ما يمتّ بالمتافيزيا. فهُم وحدهم من تحدّى الرُّبوبيّة، ولم أجد مثل ذلك إلّا في منطقةٍ واحدة، حيث يوجد القصبُ والأهوارُ على ضفافِ حدودٍ لا يعرفون لها معنى. لذلك سافرتُ إليهم. لم تعُد المنطقة كما كانت. رحل غالبيّةُ أهلِها، وهجّرتْهم الحرب، بينما انخفاضُ نسبةِ المياه زادت من نسَبِ هجرتِهم المنطقة. في بحثي بينهم ظهرَ نسيانُهم لتلك الأبيات أو ابتعادهم عنها. بينما قال كبارُ السنّ منهم: لقد كان زمنُ جاهليةٍ وتخلّصنا منه! حتى دلَّوني على شخصٍ كان قد رَحل عن المنطقةِ، وعاد ثانية. بدأ بمقدّماتٍ دينية شعرتُ بتهرّبِه ممّا سنَطرحه عليه. تجاوز عمرُه الخمسين، أنهكته السنين وقضاءُ معظمِ عمرِه في دولٍ خليجية، ثمّ عاد إلى وطنِه ليجده متعبًا مثله: الحاج لفتة بن الحاج عبدالله. بعدَ مقدّماتٍ قصيرة دخل في صُلب الموضوع، مستعيدًا طفولتَه وما سبقها، حين كانت الأنهُرُ أكثر إخافةً من الموت نفسِه.
وكأنّهم استمدّوا مخيّلتهم من الشاعر الروماني "أوفيد" الذي أعادَ صياغةَ الأساطير بروحِه التهكّمية، والتلاعبِ بها لصالحِ البشر.
وقد ابتعدوا اليوم عن هذه "الهوسات" والحديثِ المباشر مع السّماء، بعد أن زاد بينهم الخطباءُ وزاد التخويفُ من سلطةٍ عليا فتّاكةٍ، وجفت عندهم المياهُ وندر القصبُ، واستشرى فيهم التّرحال والهجرة.تحدّث الحاج لفتةُ عن سكّان الهورِ، وبالتحديد هور العظيم، وبين جملةٍ وأخرى كان عليّ استيقافُه لشرحِ مفردةٍ تكوّنت وسط القصب. ويتميّز سكّان الهور عن السكّان العربِ الآخرين، في صياغةِ مفرداتِهم وتدخّلها "الجيم المشبعة" لتنطق بـ"ژ" الفارسية، كما في اللهجة اللبنانيّة؛ فكلمةُ جَدّك مثلًا تنطق "ژدَّك"؛ وكما ينقُل أهلُ تلك المنطقة، يقلّ فيها حضورُ رجال الدين، وإن كان لهم احترامٌ خاصٌّ لا يضاهيه احترام، لكنّ البيئة الصعبة والاقتصاد المعتمد على المواسم والمقابلِ المسلّم لرجال الدين، وهم عادة خطباء، لا تشجّع هذه الفئةَ على البقاء طويلًا بينهم. وأقصى قدرةِ تحمّلٍ لا تطول أكثر من شهرٍ ليقفلَ رجلُ الدّين عائدًا، بعد أن يعيش مع سكّان الهور اللحظاتِ الدينيّة وقسوةَ الطّبيعة. من جانبٍ آخرَ كان رضا شاه البهلوي ملك إيران ومن بعدِه ابنُه، قد سلّطا عليهم دَرَكَهما وجنودهما، فكان يكفي أن يدخلَ جنديٌّ أو دركيٌّ واحد ليهرب أهلُ الحارة كلُّهم من أمامه، مختبئين في منازلِهم. لذلك كان قد قال "موزان الضبع الخسرجي" وهو رجلٌ من أهالي المنطقة: أخاف من اثنين أخاف "السَّرْبازَ" وأخاف من "جیجي"؛ يخاف السَّرباز (الجندي) إذا طلب منه حملَ المُطّال (الوقود المصنوع من روث الدوابّ): مضيفًا: لأنّني سأقتله حينَها، حيث لا أحمل في حياتي كلِّها المطّال؛ وأخاف "جيجي" زوجتي، من كثرة حبّي لها، وخوفي من صفعِها، فسأقطع يدي. فتح لفتة الصّندوقَ الأسودَ المنسوج من القصب، فتواترَت القصص: يُقال إنّ رجلًا مات، فهوّس (قاموا بالهوسة أو اليَزلة) أخوه "مُنْكر هوَّ تْهدّالَه شْويْ"، ويصرخ هنا في الملاكِ "مُنكر" أن يترفّق في معاملتِه الميتَ. و"منكر" و"نَكير" هما مَلاكانِ وظيفتُهما سؤالُ الميت في القبر؛ فإذا أجاب بالخطأ يضربانه بعمودٍ من نار. فأجابه أخوه "نخلَص موت بْريقان الحق". ويعود ذكرُ "منكر"، وكيف خدع ابنَ عواجة (عشيرة من الأهواز): شْلون يغشّك منكر وانتَ ابنِ عْواژه؟!". وكأنّهم استمدّوا مخيّلتهم من الشاعر الروماني "أوفيد" الذي أعادَ صياغةَ الأساطير بروحِه التهكّمية، والتلاعبِ بها لصالحِ البشر. وفي ما يلي أمثلة أخرى من أهازيجهم (الهوسات):
- مات شخصٌ في منطقة "السّيْديّة"، وكان يفصل الفريقينِ نهرٌ عظيم يُطلق عليه "نهر السّيدية"، فهوّس الحيدريُّ: "أفنيها الشايِلها الثّور" (أفني العالمَ الذي حمله قرن الثور)، فأجابه رجلٌ من عشيرةِ "السُّواري": "من يوم عْواژه اهتزْ عرش الرّب"، فقام شيخُ العشائر قائلًا: "أحرق أبو كل من يهوّس من هاي اللحظة"، فأسكتَهم لكي لا يتمادوا.
- حدث شجارٌ في زمن الشّاه في عشيرةٍ ما، فقُتل فردٌ من أفرادِها، فأُجبرت المجموعةُ القاتلة على السّفر من منطقةِ "العمى" إلى منطقة "الكَصُر." وهناك واجهوا مشكلةً في جمع القصب؛ إذ أنّ السكان الأصليّين لمنطقة الكصُر منعوهم. فقصَدوا كبيرَ المنطقة طالبين منه السّماح لهم بقصِّ القصب ليعيشوا. فمنحَهم الأذنَ بكسرِ القصب فهزَجوا وهم يكسرونَه: "ثِلث الله وثِلثين عريْبي، وثلث الله يطالب بيه عيدي"، وفي غمرةِ فرحِهم لم يتركوا لِله شيئًا حتّى من القصب.
- في مجلس عزاءٍ اجتمع الرِّجالُ خارجَ المضايف، والحزن يفتك بهم فقام رجلٌ وأطلق صوتَه وهو ينظر للسّماء قائلاً: "چتّالك ربْ عیب نْنوله" (مَن قتلك ربٌّ، ومن المستحيل النيل منه).
- وفي أحيانٍ يتنازلون عن غريزة التحدّي ويعاتبون السماء كما ذكرنا في بداية القول: "شْلون تْموّت جارك وانتَ موصّي بْسابع جار؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...