لكلّ مناسبة لكلّ عيد لكلّ ذكرى جعبة من الأفلام السينمائية. هالووين في آخر يوم من شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر يأتي على رأس المناسبات التي يُحتفى بها سينمائيًا فتتهافت أفلام الرعب على الصالات. استُهلكت فكرة هذا العيد مع أزيائه التنكرية واللقطين المحفور ومشاعر الترقب والخوف. بثّ الرعب في النفوس مهمّة صعبة، فبتنا أمام عشرات من أفلام الرعب السيئة مقابل قلّة جيدة. هبوط نوعية هذه الأفلام يفرض عودة حتمية إلى الوراء، هو حنينٌ ربما للفيلم المتربع على عرش أفلام الرعب التي عُرضت في مثل هذه الأيام الهالووينية.
منذ 40 عامًا على التمام والكمال، أحدث "هالووين" للمخرج الأميركي جون كاربنتر ثورة في أفلام الرعب، حتى بات ثابتًا لا يتبدّل في روزنامة هذه الاحتفالية. فخرجت نسخٌ وأجزاء لاحقة منه -آخرها هذا العام- لم تعدُ كونها محاولات مبالغًا بها أو مصطنعة لا تقارن بإنجاز كاربنتر. لا يزال الفيلم طازجًا، أصيلًا ومثيرًا للاهتمام حتى اليوم، لا شيء يشبه "هالويين" الأول، التوأمة التامة بين الرعب والفن.
"هالووين"، فيلم جون كاربنتر الثالث والأفضل. هنا أثبت الرجل عبقريته المطلقة، وأن شيئًا عظيمًا قد يولد من القليل؛ بـ 300 ألف دولار أميركي وخلال 3 أسابيع ولكن بخيال خصبٍ وأسلوبٍ سرديٍ مشوّق تمّ إنتاج فيلم بعائدات وصلت لـ48 مليون دولار. قصة الفيلم بسيطة: مايكل مايرز، ابن الست سنوات، يقتل شقيقته بطريقة بشعة، يقضي 15 عامًا في مصحة عقلية، يهرب عندما يبلغ 21 عاماً، يعود إلى الحي الذي نشأ فيه، ويستعيد نشاطه الإجرامي. البداية المرعبة يتبعها تطور سريعٌ للأحداث خلال يومٍ واحد وضمن مساحة صغيرة (منطقة سكنية نموذجية) ومع عدد قليل من الشخصيات التي يلاحقها القاتل. يكتفي المخرج بهذه النقاط دون غوص في الخلفيات النفسية والعملية، هو الجوهر الدرامي الكلاسيكي بعناصره الثلاثة (الزمان المكان والحدث)، ثمّ سرد بسيط وديناميكي يرعبنا دون أن يهين ذكاءنا.
لماذا "هالووين" بتوقيع كاربنتر؟ الرجل هو أوّل من كسر النمط المعتاد بتعامله العبقري مع التشويق ضاربًا بعرض الحائط كليشيهات أفلام الرعب التي لا تزال تستعمل إلى الآن. أكثرية أفلام الرعب أو بالتحديد أفلام "السلاشر"، تلعب على العناصر التالية: الدم، العنف، الصراخ، شخصيات غبية يثقب صراخها آذاننا ولا تنفكّ تركض وتهرب دون وجهة محددة إلى أن تقتل وبالتأكيد القاتل المريض أو الغاضب أو المُنتقم... في "هالووين" مناخٌ من القلق والغمّ، مسار صوتي موسيقي (من تأليف كاربنتر نفسه)، أحداث بطيئة، عنف محدود وقليل من المشاهد الدموية. ليست الغاية أن تشمئزّ عيوننا أو أن تُسرد طريقة القتل بحذافيرها العنيفة والدموية، بل تلصص القاتل، لحاقه الحذر بضحيته والسير إلى المكان الذي سيرتكب فيه جريمته. على عكس أفلام "السلاشر" أيضًا، لا يعير المخرج أهمية لشكل القاتل ولأعماله الشنيعة أو لدوافعه بل للعلاقة الحميمة بين الشخصيات، المكان الريفي والزمان.
يركز كاربنتر في "هالووين" بشكل كبير على شخصياته، على الضحايا الذين هم أغلبهم شبانٌ وشاباتٌ مراهقون، نعيش حياتهم اليومية (المدرسة، الحب والخلاف مع الوالدين) ونترقب لقاءهم بالقاتل الغاضب. صحيح أن الأميركي عاد إلى الصورة النمطية لشخصيات أفلام الرعب: مراهقات يبحثن عن الجنس، عن قضاء وقتٍ ممتع، ثمّ طبعاً لوري (جيمي لي كرتيس) فتاةٌ منهنّ أكثر عمقًا، لا تزال "عذراء"، هادئة، خجولة وتفضّل قضاء أمسية هالووين في مجالسة الأطفال. لكنّ كاربنتر لم يترك هذه الشخصيات النموذجية لأفلام الرعب على حالها، شخصيات كاربنتر أكثر تميّزًا وعمقًا إذ قولبها بطريقة ذكية. المقارنة الفاضحة بين "طهارة" لوري والسلوك "الخاطئ" لأصدقائها، لا تقتضي بقاءها على قيد الحياة أو موت أصدقائها، رفض كاربنتر معادلة الجنس = الموت أو المخدرات = الموت وغيرها من المفارقات السخيفة التي توحي بالقصاص ويشتهر بها هذا النوع من الأفلام.
هبوط نوعية هذه الأفلام يفرض عودة حتمية إلى الوراء، هو حنينٌ ربما للفيلم المتربع على عرش أفلام الرعب التي عُرضت في مثل هذه الأيام الهالووينية.
منذ 40 عامًا على التمام والكمال، أحدث "هالووين" للمخرج الأميركي جون كاربنتر ثورة في أفلام الرعب، حتى بات ثابتًا لا يتبدّل في روزنامة هذه الاحتفالية.
لماذا "هالووين" بتوقيع كاربنتر؟ الرجل هو أوّل من كسر النمط المعتاد بتعامله العبقري مع التشويق ضاربًا بعرض الحائط كليشيهات أفلام الرعب التي لا تزال تستعمل إلى الآن.
القاتل في رؤوسنا، نرى ما يراه، نعيش أحاسيسه ونصادق تنقلاته. أنت في "هالووين" لن تشاهد الرعب بل سوف تعيشه وتتعايش معه.عنصر آخر ساعد في تكوين فرادة هذه التحفة: شخصية القاتل. مايكل مايرز ليس خارقًا للطبيعة، بل هو مريض هرب من المصحة ومشكلته عدم قدرته على الإحساس بشيء سوى الرغبة في القتل. هكذا صنع المخرج مايكل مايرز خاليًا من الدوافع النفسية المعقدة، سلوكه وأفعاله هي التي تحرك السرد. منح كاربنتر مايرز هالة أسطورية خيالية تتناغم مع إحدى قصص ليلة عيد هالووين (ليلة أحياء السحرة) أمّا القناع الذي يرتديه باستمرار فيجرّده من انسانيته في نظرنا ليكون الشر المطلق، "البعبع" الذي يؤرق حياة الأمريكيين الريفية. كيف تتخيل مشهد بداية فيلم رعب؟ ذعر كبير؟ وجه القاتل المخيف؟ مشاهد تعذيب غير مفهومة ولا يمكن تفسيرها إلا بتتالي المشاهد؟ كاربنتر رمى هذه القوالب الجاهزة والاعتيادية. من عينَيْ مايكل مايرز وخطواته الصغيرة بنى كاربنتر مشهد افتتاحٍ مبدعًا. منذ الثانية الأولى يبدأ الرعب الذي يتصاعد دون أي لحظات راحة حتى آخر الفيلم. هي تحفة كلاسيكية قدمت الخوف دون تنفيسه بصراخ مؤرق بل بطريقة مرعبة صامته ومنتظمة. القاتل في رؤوسنا، نرى ما يراه، نعيش أحاسيسه ونصادق تنقلاته. أنت في "هالووين" لن تشاهد الرعب بل سوف تعيشه وتتعايش معه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...