زيارة مدينة "ليفربول"، قد تعني للبعض، التفكيرَ في محمّد صلاح، اللّاعب المصريّ الذي أصبح اليوم أحدَ أبرزِ معالم المدينة الساحرة والمضيئة بتاريخ النجوم، بين قادمٍ وآخرَ، هجرَها في زمنٍ بعيدٍ بحثًا عن أمل جديد؛ هكذا تقف "ليفربول" بين حكايةِ محمّد صلاح، وقصة فرقة "البيتلز/The Beatles"؛ تتقاطع أحلامُ النّجاح بين ضفّتيْ نهر "ميرسي" الشاهد أيضًا على حكاية سفينة "التيتانك" عام 1911. كلُّ تلك الأحلام انطلقت بثيابِ المواطنين البُسَطاء، وشقّتْ طريقَها إلى عالم الأضواء، بعد أن سافرتْ بين صفحاتِ الجرائد والكتب، حتّى يومِنا هذا. مدينة "ليفربول" هي "ميناءُ الأحلام الكبرى"، هكذا يحلو لي وصفُها منذ الوهلةِ وأنا أراقب أعدادَ النّاس المسافرةِ إليها عبرَ محطّة "إيستون/euston"وسط لندن، للدراسةِ أو العمل أو السّياحة، وقد تغيّرت الصورةُ عن قصصِ النّاس وحكاياتِهم مع المدينة قبلَ خمسين عامًا. قبل الوصولِ إلى المحطّة، حشر أصدقائي البريطانيّون في عقلي الكثيرَ من الأفكار حول المدينة؛ قالوا: إنّ الأجداد كانوا في منتصف القرن الماضي في رحلةِ الهرب من تلك التي كانت توصف بـ "المدينة المّيتة". فأبناء المدينة من جيل الخمسينيات يتذكّرون معاناةَ ليفربول مع الحروب؛ يقول أحدهم: جدّي عانى كثيرًا في ليفربول"؛ فكانت المدينةُ منهكةً، لا تصلح لأحلامٍ مثل أحلامِ "البيتلز"، تلك الفرقة التي تشكّلت من أربعة أفراد؛ عازف آلة الغيتار والإيقاع والمغنّي الأشهر في الفرقة "جون لينون"، المغنّي و عازف الغيتار "بول مكارتني"، بالإضافة إلى "جورج هاريسون" و"رينغو ستار"، و كلّهم أبناء مدينة ليفربول، والذين يشكّلون اليوم جزءًا هامًّا من هوية المدينة. محطّة ليفربول.. ذاكرة المدينة كنتُ مسافرًا بالقطار باتّجاه الشمال البريطانيّ، أفتّش بين عناوين الجرائدِ عن شيءٍ ما يشدّني أكثر إلى ليفربول، و يجعل من رحلتي التي لن تدوم أكثر من 48 ساعة رحلةً خالدةً في ذكرياتي، وسط كلِّ تلك الحكايات، والعناوين التي تتحدث عن المدينةِ من عدّةِ زوايا. ولم يكن هناك أقوى من حكاية "البيتلز". كنتُ متلهّفًا لمعرفةِ المزيد، وأنا أتصفّح المواقعَ الإلكترونية بحثًا عن التّفاصيل، فيُصادفني هذا العنوانُ في مجلّة "فاريتر" الصادرة بتاريخ 17/أكتوبر/2018 : "Climate Change،Egypt Station’ and the Beatles White Album"؛ عنوانٌ كهذا على لسان العازف والفنّان بول مكارتني الذي يعتبر أحد الأعضاء البارزين في فرقة "البيتلز"، يستحقّ التأمّلَ والتوقّف عنده طويلًا، خصوصًا ونحن على متنِ القطار المّتجه إلى المدينة التي ولد فيها مكارتني ورفاقُه الثلاثة. الرّجلُ بلغ من العمر 76 عامًا، ولا يزال يحلم بأن يجعلَ من النّاس سعداءَ في كلِّ مكان، كما عنوان موقع "ذو أتلنتك"، وهو يتحدّث عن الصوت الذي انطلق في بدايةِ ستّينيات القرن الماضي، بينما يقول تقريرٌ آخر: "بول مكارتني، مغنّي فريق البيتلز السابق، أصدر كتابًا للأطفال يحمل اسم "أهلاً يا جدّي"، فالرّجل لديه اليوم ثمانية أحفاد. بعد رحلةٍ دامت ساعتينِ ونصف، أخطو الخطوةَ على أرض محطّة ليفربول، بينما تحاصرني الأسئلةُ حول ملامح مدينةٍ أجدها أجملَ ممّا كنتُ أتخيّل؛ أجملَ بكثيرٍ من الوصفِ الذي اعتمدَه أصدقائي البريطانيّون، الذين نصحوني بزيارتِها وقالوا: "ليفربول مدينة ستحبّها عندما تكتشف كيف عانتْ عبرَ التّاريخ!"، وقد كان اللقاءُ الأوّل في المحطّة عند حدودِ منتصف الليل، لأجدَها مدينةً تعجّ بالحياة، متباهيةً بتاريخِها الطّويل في إنجابِها لعددٍ كبيرٍ من النّجوم، نجوا بأعجوبةٍ من حطامِ الحرب العالمية الثانية. سؤالان آخرانِ تبادرا إلى ذهني في تلك اللحظة: "ماذا لو وُلد أعضاء فرقة البيتلز في هذا الزّمان؟ وماذا لو كانت ليفربول بهذا الشكل في ستينيات القرن الماضي؟". رُبّ ضارّةٍ نافعة، يقول خيالي، وأنا أراقب النّصب التّذكاريَّ للحرب الشّرقيةِ الكبرى الذي تمّ تركيبُه على محطّة ليفربول عام 2007، ليخلّد حكايةَ 1100 مواطن بريطانيّ قتلوا في هذه المدينة خلال الحرب. لقد كان من الممكنِ جدًّا أن يكونَ أعضاءُ فرقة البيتلز من بين هؤلاء الضّحايا، لكنّهم قرّروا الهربَ بأحلامِهم إلى ألمانيا في الوقتِ المناسب.
حكاية فرقة "البيتلز"، تشبه كثيرًا حكايةَ المدينة، كما يوحي منظرُ النّهر من سقفِ "كنيسة كاتدرائيةِ المسيح القائم من الموت، لليفربول".
مدينة "ليفربول" هي "ميناءُ الأحلام الكبرى"، هكذا يحلو لي وصفُها منذ الوهلةِ وأنا أراقب أعدادَ النّاس المسافرةِ إليها عبرَ محطّة "إيستون/euston"وسط لندن، للدراسةِ أو العمل أو السّياحة.جولة سريعة بعد منتصف الليل في شوارعِ ليفربول تجعلني أكتشف مدى تعلّقِها بفرقة "البيتلز"؛ تقريبًا لا أشاهد زاويةً إلا ووجدتُ أثرًا لثلاثة أمور فيها؛ الأوّل يتعلّق بفرقة "البيتلز"، والثاني بمخلّفات الحروبِ التي عصفت بالإنسانية؛ مثل ما حدث لـ "كنيسة سانت لوك"، التي لا تزال شاهدةً على الدّمار الذي تعرّضت له ليفربول في أربعينيّات القرنِ الماضي، وقد قرّر عمدةُ المدينة عدمَ ترميمِها، وتركَها شاهدةً على بشاعةِ الحروب؛ أما الأمر الثالثُ، فبلا شكٍّ هو فخرُ المدينة بفريق " ليفربول" لكُرة القدم. فرقة "البيتلز" وحكاية الأمكنة حكاية فرقة "البيتلز"، تشبه كثيرًا حكايةَ المدينة، كما يوحي منظرُ النّهر من سقفِ "كنيسة كاتدرائيةِ المسيح القائم من الموت، لليفربول"؛ إنّها تشبه حكايةَ حقائبِ السّفر التي تتعب بين الموانئ، تمامًا كقصّةِ البضائع الثمينة التي تسافر لتستقرَّ في زوايا المنازلِ والشوارع والبيوت الفاخرة. هناك ثلاثةُ ملامحَ مميّزةٍ في حكاية الفرقة؛ الأمر الأوّل هو علاقتُها بالصّحافة ورجال الإعلام؛ والثّاني، علاقتُها بالسّفر والهجرة إلى ألمانيا؛ والثالث هو علاقتُها بالجمهورِ البريطانيّ. وسط المدينة تمّ تخصيصُ متحفٍ للفرقة. ليس مبنىً كبيرًا، ولكنّه متحفٌ صغيرٌ من أربعة طوابق، يتوسّط شارعَ موسيقى الجاز. إنّك تشعر بعظمة هذه الفرقة في كلِّ أرجاء المدينة؛ في عيونِ النّاس والسّيّاح الذين يتوقّفون لالتقاطِ الصّور مع تماثيلِ أعضاءِ الفرقةِ الأشهرِ في التّاريخ. "البيتلز" هم اليوم علامة مميّزة تدعم السّياحةَ، وتجلب الزّبائنَ إلى المتحف. يمكن أن تلمسَ بوضوحٍ تفاصيلَ سرِّ النّجاح في هذا المكان بالذات، والذي يجمع بين الملابسِ والآلات الموسيقية لأعضاءِ الفرقة، وحتّى دفاتر وأوراق المحاولاتِ التي كانوا يستخدمونها لكتابةِ كلمات الأغاني. في هذا المكان، شدَّ انتباهي فصولٌ من شخصيةِ أعضاء الفرقة؛ العفويّة والصراحة وعدم التصنّع، هي أكثر الأشياء التي كان يميّز بها أعضاءُ الفرقة، ما جعل الملايينَ يتعلّقون بهم في بداية طريقها، فرغم محاولةِ مديرِ أعمالِهم براين إيبشتاين، تغييرَ طريقتهِم في اللّباس، بعد أن اقترح عليهم ضرورةَ ارتداءِ البدلة وربطة العُنق، قائلًا لهم: "العالمية تريد الظهورَ بمظهرٍ جيّد"، إلا أنّ الروحَ وخفّة الدّم اللتين كانوا يمتّعون بهما، رفعت من أسهمهم، فلم يستطع الرّجلُ الذي شكّل الحلقةَ الأبرز في نجاحِهم، تغييرَ سلوكِهم إلى الأرستقراطية، رغم أنّه كرّر المحاولة على مدار علاقة الوفاءِ التي جمعتْه بهم حتى آخرِ يومٍ من حياته عندما توفّي سنة 1967. ثمّة مكان آخر يرتبط بحكاية فرقة البيتلز، هو "الكهف/The Cavern Club " الذي تحوّل إلى مزارٍ للسّيّاح، حيث الموسيقى الصاخبة باتت علامةً مميّزة فيه. تمرّ اليوم الذكرى الواحدة والستّون لافتتاحِ هذا المكان، ولا يزال قبلةً للفناّنين المحليّين؛ يتميّز بموقعِه القريب من محطّة القطار، ما يعني عدمَ عناء السّير طويلًا قبل الوصول إلى شارع موسيقى الجاز، حيث تتنافس المحالُّ على استقطاب أكبرِ عددٍ من الزّبائن لاحتساء النّبيذِ والاستمتاع بالموسيقى. وبين عشرات المحلّات المتراصّة على امتداد الشارع، يحافظ "الكهفُ" على رونقِه؛ فعند حدود الساعة السّابعة من كلِّ يوم، يصطفُّ النّاس في طوابيرَ طويلةٍ للدّخول، مقابل مبلغ 2.5 باوند للفرد، وهو مبلغٌ بسيطٌ مقارنةً بعبقِ المكان. تشير لوحةٌ زجاجيةٌ كبيرةٌ معلّقةٌ على الجدار، وبداخلِها آلاتُ الغيتار القديمةُ إلى أنّ الفضلَ في تحويل هذا المكان المظلم إلى نادٍ للجاز، يعود إلى صاحبِه "آلان سيتنر"، الذي استوحى الفكرةَ من حيِّ الجاز في باريس، حيث كانت الأقبيةُ الحضنَ الدافئَ لهذا الفنّ. وقد كان المكانُ قبل تاريخ 16 جانفي 1957 مستودعًا للفواكه، وتمّ استخدامُه كمخبأٍ من الغارات الجويّة خلال الحرب العالميّة الثانية، وقد افتتح كنادٍ للجاز في ذلك التاريخ بحفلٍ قدّمتْه فرقةٌ موسيقيّة محلّية للجاز تدعى"Merseysippi Jazz Band". يوجد حوالي مئة درجة على طول السلّم الحديديّ الدائريّ الذي يأخذنا إلى عمقِ قلبِ الجاز، في "الكهف" المظلم. ينقطع الاتصال بالهاتف والراديو، فهو مكان يأخذ الزوارَ في رحلة ليليّةٍ مميّزة مع أداء الفرَقِ الغنائيّة التي تهوى موسيقى الجاز والاستماع إلى الأصوات المتباينة، بين القويّة والمتواضعة. في "الكهف" توجد فرصةٌ لجميع المواهب، والكلُّ سعيدٌ، ويتفاعل مع الأجواء، سواء بالرقص أو ترديد كلمات أغاني فرقة "البيتلز" التي لا تزال تُعتبر العرضَ الأكثر تميّزًا وانتظارًا بين كلِّ الفقرات. قبل أن تصل "البيتلز" إلى "الكهف"، لتغنّي لأولِ مرّة عام 1961، كانت قد غادرت ليفربول باتّجاه مدينة هامبورغ الألمانية، وقد عادت لتجدَ المكانَ قبلةً لعددٍ كبيرٍ من فنّاني الجاز المعروفين في ذلك الوقت. ومن عام 1961 حتّى عام 1963 قدّمت فرقةُ البيتلز 292 عرضًا موسيقيًّا في النادي، كان آخرُ ظهورٍ لهم في 3 أغسطس 1963، وبعد شهرٍ من تسجيلِ الفرقة لأغنية "هي تحبّك"، والتي قادت الفريقَ للقيام بأوّلِ رحلةٍ إلى الولايات المّتحدة لبداية حكاية جديدة في عالم الشهرة التي تجاوزت حدودَ الخيال. ولا يزال المكان وفيًّا لفرقة "البيتلز" حتّى يومِنا هذا، تمامًا كما تشير الفيديوهات المنتشرةُ على الأنترنت لحفلاتِ فرقة "البيتلز". وقد اختلفت اليوم الأشكالُ، وتغيّرت الموضة والجنسيّات، إلّا أنّ جيلًا جديدًا يواصل رسمَ نفسِ الصورة في الإعجاب بالبيتلز، و يسير على نهج الآباءِ في علاقتِهم بهذِه الفرقة في ستينيّات القرن الماضي. تغادر المكان عند حدود منتصفِ الليل، بعد رحلةٍ داخلَ الكهف تشبه "الرحلة مع الزمن"، لكنّك تكتشف في النهاية أنّ "الكهف" الحاليّ، ليس هو نفسه الكهف الذي غنّت فيه الفرقةُ بين سنوات 61 و63، كما تشير المعلوماتُ إلى أنّ الموقع القديم قد هُدم من أجل أن يمرَّ خطَّ سّكّة المترو عام 1974، فانتقل "الكهف"إلى مكانٍ هو صورةٌ طبق الأصل، تمّ افتتاحُه عام 1984. وهذا المكان الذي زرناه أصبح واحدًا من مناطق الجذبِ السياحيّ الأكثر شهرةً في المملكة المّتحدة فقط لأنّه يحمل اسم "الكهف". أرقام خياليّة من النجاح وجرأة المراهقين حبّ فرقة "البيتلز" لمدينة ليفربول تجسّد في عدّةِ أغانٍ، منها الأغنية الشهيرة "بيني لين" عام 1967، والتي تحكي قصة أشهرِ شوارع المدينة، ولذلك فالنّاس هنا لا يحبّون البيتلز فقط، بل يعشقونهم حدّ الجنون، ويفتخرون بهم كفرقةٍ موسيقيّة ساهمت في التّعريفِ بالوجهِ الجميل للمدينة والثقافة البريطانيّة بشكلٍ عام. كلُّ هذا الوهج واعتزاز المدينة بالفرقة لا يزال مشفرًا بالنسبة لي؛ هكذا يزداد شوقي لمعرفةِ المزيد عن هذه الفرقة التي لم أكن أعلم عنها قبل هذه الزيارة الكثيرَ. كنتُ أعرف مثلًا أنّها فرقةٌ نشأت في ليفربول، قدّمت عشراتِ الأغاني المشتركة قبل أن تنفصل ويتّجه كلُّ واحدٍ منهم للغناء منفردًا عام 1970، بعد أن سجّلوا 13 ألبومًا، وشاركوا في خمسةِ أفلامٍ سينمائيّة، وبيعت أشرطتُهم الغنائية أكثر من 800 مليون شريط. في "الكهف"، كنت أبحث عن شخصٍ عايش زمنَ فرقةِ البيتلز. كان من الصّعب العثورُ على رجلٍ أو سيّدة من جيلِ الخمسينيّات، فمعظم روّاد "الكهف" اليوم هم من الشّباب. وعندما سألتُ النادلَ هل هناك أحدٌ من الذين عملوا في "الكهف" وعايش زمن البيتلز لا يزال على قيدِ الحياة؟، كانت مفاجأةً أن تردّ سيّدةٌ ألمانيّة كانت تقف إلى جانبي عندما كنت أطرح السؤال. هي اليوم في حدود سنّ الثامنة والسبعين، وكانت رفقة بعض الأصدقاء. استوقفت سؤالي بهذه الجملة : "أنت تأخذني إلى الزمن الجميل"، وعرفتُ فورًا أنّها كانت من زبائنِ حفلاتِ البيتلز عندما كان عمرُها 16 سنة. لقد عرفت فرقةُ البيتلز كيف تطوّع مشاعرَ المراهقين لصالحِها، وتخطف قلوبَ الفتيات في ستينيات القرن الماضي. فلقد كانت ليفربول مدينةً محافظة نسبيًّا في كلِّ شيءٍ؛ في طريقة اللّبس والكلام، وحتى العلاقات بين الذكر والأنثى. وقد جاءت كلماتُ أغاني "البيتلز" حاملةً شحنة عاطفية قوية تحاور مشاعرَ الفتيات، ولهذا كنّ يصرخن ويبكين ويغمى عليهنّ من شدّة التأثّر. كانت أغاني البيتلز بالنسبة للمراهقاتِ تحمل نشوةً خاصّة، بسبب قوّة الكلمات العاطفية وكسرها للحواجز؛ وهكذا اختزلت تلك السيّدةُ حكايةَ فرقة البيتلز، قبل أن ترفعَ التحيّة لهم، وتعود إلى زملائها الذين جاؤوا إلى "الكهف" من أجلِ إعادة الذّكريات. كلّ هذا لم يكن كافيًا بالنسبة لي لأقتنعَ بأنّ صرحَ النجومية الخيالية للفرقة شُيّد كذلك لهذه الفرقة، فهناك عشرات المغنّين في الزّمن القديم كانت كلماتُهم قويةً، وعفويّين جدًّا؛ الأب الروحيّ لأغنيةِ روك أند رول، ألفيس بريسلي مثلًا، كان متمرّدًا في تسريحةِ شعرِه وكلماتِه، ما يعني أنّ "البيتلز" احتاجوا إلى عصًا سحريةٍ في بداية الطريقة؛ ربّما معجزة أو حدثٌ هامّ. وقد جاءت الفرصة التاريخية أمام المراهقين الأربعة عام 1963، عندما حان وقتُ الوقوف فوق خشبة "رويال فارايتي بيرفورمانس كوين" للغناء أمامَ ملكة بريطانيا، ولم يكن هناك أمام الفرقةِ أيّ مجالٍ للارتجال أو استخدام المصطلحات الشعبوية. لقد كان أعضاء الفرقة في ذلك اليوم أمام "مهمّة مستحيلة: "الغناء بأسلوبٍ راقٍ أمام الملكة"، ولكنّ المفاجأةَ أنّهم لم يكترثوا لأهميّة الشّخصية التي يقفون أمامها، فغنّوا بنفس العفويّة، بل أكثر من ذلك، وقف جون لينون أمام الجمهور وقال جملتَه الشهيرة: "أطلب من البسطاء الذين يجلسون في الصفوفِ الخلفيّة أن يصفّقوا أمام الأثرياء الذين يجلسون في الصفوفِ الأولى، والذين عليهم أن يحرّكوا مجوهراتِهم فقط"، وكان يقصد بذلك الملكةَ والطاقمَ الملكيَّ. والمفاجأةُ أنّ الملكة أُعجبتْ جدًّا بعفويّة الفرقة، وهو ما تجسّد لاحقًا بمنحِها لهم وسامَ "فارس الإمبراطورية" عام 1965، فورَ عودتِهم من الولايات المتّحدة الأمريكية. ضربة الحظّ تلك، كانت بفضلِ قوّةِ شخصيّة جون لينون المتمرّد الذي لم يوفّقْ في دراستِه، وكان مختلفًا عن باقي أعضاء الفرقة عندما كان طفلًا. فَشلُ جون لينون في دخولِ الجامعة، جعله يلتحق بدراسةِ الفنون التشكيليّة، ما شكّل لديه شخصيةً مختلفة تميل إلى التمرّد، وهو ما انعكس على كلماتِ العديد من الأغاني التي كتبها. نغادر ليفربول، بعد رحلةٍ مميّزة مع تاريخ البيتلز. قد أصبحت اليوم الفرقةُ، في دفاتر الماضي الجميل لتاريخِ بريطانيا. اثنان من أعضائها رحلوا، قُتل جون لينون بالرصاص عام 1980 في الولايات المّتحدة الأمريكية، وتُوفّي هاريسون بسرطان الرئة عام 2001، ولا يزال بول مكارتني يجوب العالمَ، وقد قام بعددٍ من الثّنائيّات الغنائية المميّزة، منها أغنية "قل قل" مع مايكل جاكسون عام 1983؛ بينما لم تغبْ شمس أكبر أعضاء الفرقة سنًّا، عازف الدرامز، رينغو ستار، الذي كان له الفضلُ في جمعِهم في "الكهف" في ستينيات القرن الماضي، وقد بلغ اليوم 78 عامًا، ويصنّف في خانةِ أعظم عازفي الدرامز في التّاريخ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...