شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
هل تعرف

هل تعرف "التّونسيَّ الفضيح"؟... نصائحُ قبل الدّخول إلى تونس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 30 أكتوبر 201803:37 م

يبدو الشارعُ التونسيُّ معقّدًا بالشّيفرات اللّغوية، ولا يمكنك اختراقه دون أن تكون لك سرعة ردِّ الفعل لبطلٍ في الكونغ فو، وقدرة عجيبة على ترجمة ما يطرق أذنَك من كلامٍ  بسرعة الصوت، لأنّه ليس بشارعٍ، بل هو حقلٌ من الألغام. وإن فكّرت يومًا ما في النّزولِ سائحًا إلى تونس، فعليك أن تحترس من تلك الشّيفرات، لأنّ التونسيّين محترفون في ترحيل الكلمات إلى دلالةٍ أخرى مختلفةٍ تمامًا. وبعض هذه التّرحيلات معلنة، وبعضُها يبقى سرّيًّا في المتداول اليوميّ المحليّ. ويعرف هذا بـ"الغشّة"؛ فالكلام المبنيّ للمجهول كلّه إحالة على معانٍ جنسيةٍ وورطةٍ وفخٍّ يُنصب للشخص المقابل حتّى تعجزك هذه البلاغةُ في الفحشِ عن الكلام. فكلّما تكلّمتَ أكثر، سقطتَ في مزيدٍ من الفِخاخ المنصوبة لك؛ لذلك عليك أن تبنيَ الجملةَ دائمًا للمعلوم، وتذكرَ جميعَ عناصرها، اسميّةً كانت أم فعليّة.

ومع ذلك فإنّك لن تنجو، بل تبقى واقعًا في الفخّ مهما فعلْت. هذه الظاهرة التي انحرفَتْ بالخطابِ اليوميّ التداوليّ إلى خطابٍ جنسيّ، والتي دفعتْ بأحدِ غلاة الشّيوخ إلى القول: "إنّ الشارعَ التونسيَّ ينقض الوضوءَ"، استغلّها اليوم الإعلامُ للتّرفيع من نِسَبِ المشاهدةِ، فالتونسيُّ يطرب لخطابِ  الإيحاء الجنسيِّ في برامجِ التّوك شو. وقد ازدهر هذا الخطابُ مع تزايدِ عدد التّلفزيونات الخاصة، وأصبحت المنافسةُ بين مقدّمي البرامج في من ينجح  أكثر من غيرِه في تمرير أكثرِ الإيحاءات الجنسيّة عبر الخطاب التلفزيونيّ الموارب، وأسقط هذا الإعلامَ التونسيّ في الابتذالِ والسطحيّة.  

من جهةٍ أخرى، التقَط حقلُ الدّعاية هذه الظاهرةَ للترويجِ للسّلع والمنتوجات، كما يحيل التهجين على خطابٍ مثيرٍ أحيانًا للضحك  أو للاستغراب. ففي الشّارع، لا تُفزَع إذا شاهدتَ على لافتةٍ إشهاريةٍ صورةَ شابٍّ وسيمٍ مكتوبٍ عليها "شرجي بدينار"، ولا تتسرّع في إصدار الأحكام على الشّابّ، فكلمة "شرجي" مهجنة في الفرنسيّة، وليس في العربية، وتعني "اشْحن"، والعبارةُ كاملة تعني "اشحن (هاتفك) بدينار".

وإذا رأيتَ لافتةً كُتب عليها "ممنوع الانتصاب"، فلا يذهبنَّ بك الظنُّ إلى المعنى الحرفيِّ للجملة، فالمقصود أنه يُمنع أن تَضعَ سِلَعًا للبيعِ لحسابِكَ الشخصيّ
وإذا رأيتَ لافتةً كُتب عليها "ممنوع الانتصاب"، فلا يذهبنَّ بك الظنُّ إلى المعنى الحرفيِّ للجملة،  فالمقصود أنه يُمنع أن تَضعَ سِلَعًا للبيعِ لحسابِكَ الشخصيّ. وإن وجدتَ لافتةً بعبارةِ "ممنوع التوقّف"، فيعني ممنوعٌ أن تركنَ سيّارتَك في هذا المكان. هذه الشّيفراتُ الجنسيّة التي يرشح بها الشّارعُ التونسيُّ تعدّتْ النّكَتَ والتنابزَ  والحقلَ الوضعيَّ، لتتعدّى إلى توظيفِ أسماءِ شخصياتٍ دينيّة، وأغربُها على الإطلاقِ هي تسميةُ المؤخّرةِ باسمِ "خديجة"، بما يحمله الاسمُ من ثقلٍ مقدّس.  فإن سمعتِ يا آنستي العزيزةَ، وأنت تمرّين بجماعةٍ، عبارةً من نحوِ "خديجة كبرتْ" أو "خديجة دخلت تقرا" (تدرُس)، فهُم يقصدون أنّ مؤخرتَكِ كبُرتْ، وهي إحدى أشهرِ عباراتِ التحرّش في تونس.

أذكر أنّني بعد أن نشرت روايتي "المشرط"، والتي حملتْ عنوانًا فرعيًّا "من سيرة  خديجة وأحزانها"، وكنتُ أتحدّث فيها عن قصةِ مجرمٍ يطارد مؤخراتِ النساء، وكان يسمّى "الشلاّط"، لأنّه كان يطاردهنّ بمشرَطٍ طبّيٍّ، وصلتْني كثيرٌ من الدعواتِ الغريبة، إحداها من الهندِ لتَكريمي لأنّني خصّصتُ السيدةَ خديجة بنت خويلد، زوجة الرّسول محمّد صلى اللّه عليه وسلّم، بروايةٍ، وتواصلتْ معي دارٌ أخرى أجنبيةٌ تريد ترجمةَ الرّوايةِ للسّبب نفسِه، قبل الاطّلاع على الرّواية.

وطبعًا بسبب تلك العبارةِ مُنع الكتابُ في السّعودية ومعظمِ دول الخليج، وكان سيُصادَر في تونس عام 2006، لولا حملة إعلامية للإفراج عنه، وقد وقع إسقاطُ العنوان الفرعيِّ في الطّبعةِ المشرقية، لكنّها عادت في ترجمتِه الإيطالية.

أما كلمة طحّان في تونس، فلها قصةٌ أيضًا؛ فإن سمعتَ شخصًا يصِف آخرَ بالطحّان، فلا يذهبنّ بك الظّنُّ أنّه يقصد بائعَ الطّحين أو الخبّاز، بل الطّحانُ  بالتّونسيّ، هو ما يُعرف في المشرقِ بالعَكروت. ومن طرائفِ الحكايات المتداولة، أنّه في أحد مهرجانات المسرح العربيِّ، وأثناء توزيعِ الجوائز، نودِيَ على ممثّلٍ سوريٍّ بلقبِه (طحّان)، فانفجَر الوفدُ التونسيُّ ضحكًا، ثمّ بعد دقائقَ نُوديَ على ممثّلٍ تونسيٍّ بلقبه (العكروت)، فانفجر الوفدُ السوريُّ والوفدُ اللبنانيُّ ضحكًا.

لا تفكّرْ أن تقيمَ بتونسَ وأنت تحمل لقبَ طحّان، وكنْ حذرًا من فهمِ اللّغةِ حرفيًّا، فمعانيها مخاتلةٌ، وما قد تسمعه على أنّه شتيمةٌ، قد يكون إطراءً ومدحًا

ويرجع بعضُ الباحثين أمرَ هذا التّرحيلِ اللّغويِّ إلى أنّ الخوَنةَ في عهدِ الاستعمارِ  الفرنسيِّ كانوا يلبَسون أكياسَ الطّحينِ فوق رؤوسهم لكي لا يعرفَهم أحدٌ أثناء وشايتِهم أو استعمالِهم كشُهودٍ، ولا يقعَ الانتقامُ منهم وتصفيتُهم بعد ذلك  باعتبارِهم عملاءَ وخوَنة؛ فأصبحتْ تعني الكلمةُ الديّوثَ الرّخيص الذي لا يغار على عرضِه. لذلك، لا تفكّرْ أن تقيمَ بتونسَ وأنت تحمل لقبَ طحّان، وكنْ حذرًا من فهمِ اللّغةِ حرفيًّا، فمعانيها مخاتلةٌ، وما قد تسمعه على أنّه شتيمةٌ، قد يكون إطراءً ومدحًا؛ كأنْ تسمع شخصًا يتحدّث عنك، ويقول إنّك ابن قحبة، أو يقول لك فجأةً: إنّك والله ولد قحبة؛ فوَلدُ القحبة في تونس هو الذكيُّ الفطن الذي لا يُشقّ له غبار، ولا علاقة للعبارة بالشّرفِ أو بأخلاقِ أمِّه.

ولا تستغربْ إن رأيتَ شخصًا يبتسم لأنّ شخصًا آخرَ يقول له بكلِّ فصاحةٍ: أنت ولد القحبة أو تتقَوحَب، فمعناه أنَك تحاول التحايلَ عليه! ولكن، إن سمعتَ شخصًا يقول عنك إنّك "تغنّي" أو "ترنّ"، فهذا يعني أنه يصفك بالمأبون! وكلُّ ذلك يُفهم أيضًا من سياقِ الكلام، ويخضع لما يُسمّى في  علم اللغةِ بالتّداولية، أي أنّ الكلماتِ والعبارات تكتسب معانيَ جديدةً من خلال التّداولِ والاستعمال،  ووفقَها تكون الأجوبةُ عن الأسئلة.

الشّارعَ التونسيَّ يعود إلى فرديناند دي سوسير، واعتباطيةِ العلامة، ليؤسّسَ  معجمًا جديدًا للمعاني من الكلمات نفسِها. فلا تدخلْ تونسَ لأوّل مرةٍ دون دليلٍ، وتجنّب الكلامَ حتّى تملكَ قاموسَ شارعِها، ولا تنسَ أنّها بلدُ النفزازيّ، والتّيفاشي، والتّيجانيّ، أهمّ كتّابِ الجنسِ العرب من ناحيةٍ، وبلدُ صاحبِ لسان العرب، ابن منظور القفصيّ، من ناحيةٍ ثانية. وهل  لِما يحدُث للكلامِ التونسيّ الذي لا يَكتسب بلاغتَه إلا بفُحشِه، علاقةٌ بين واضعِ معجم لسانِ العرب، ابن منظور، وبقيّةِ شيوخ الإيروس، باعتبارِها أرضَ استنباطٍ، أم هي نزعةٌ من السّكان الأصليّين، الأمازيغ، للانتقامِ من الغازي العربيِّ، وإرباكِه بسرقةِ اللّغة ومعانيها، باعتبارِها رمزًا لهويّتِه؟ أم أنّ وراءَ ذلك احتياطيٌّ من الكَبتِ الجنسيِّ والسياسيِّ يجد في التلاعبِ باللّغةِ إشباعًا؟ أسئلة تبقى تنتظر إجاباتٍ من علماءِ الاجتماع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image