شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
مشاهد من حفل زفاف سوداني معاصر ووليمة الألف مدعو

مشاهد من حفل زفاف سوداني معاصر ووليمة الألف مدعو

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 26 أكتوبر 201811:16 ص

في الخرطوم، تتم دعوتك لحضور حفل زفاف لأسباب عديدة، عدا معرفتك بأحد الزوجيْن؛ قد تكون صديق الأب أو الأم أو زميلهما في سنوات الدراسة، ربما اجتمعت بهما في بلاد المهجر وربما كنت زميل عمل، أو تدرس في الجامعة مع أخي العريس، ولم يجمعك به سوى صف في المدرسة، يتعدى المئة طالب وطالبة. أو على سبيل المثال، لعلّك تعمل في نفس القسم أو المؤسسة مع أخت العروس وتتبادلان السلام الصباحي فقط! عندها، لا تستبعد أن تُدعى لحضور الفرح إن كنت خال زوج أخت العروس، فعلاقة المصاهرة وطيدة. ستتلقى الدعوة حتى لو كنت صديقًا إسفيريًا! إنها مودة مخلوطة بشعور الالتزام الاجتماعي الذي يمتدّ عبر شبكة المعارف للعروسين وذويهما.

بهذه البساطة الملازمة لمجتمع العاصمة السودانية الساعي للحداثة في تفاصيل إقامة الحفل، تتم دعوة الحضور بطريقة تشبه التسويق الشبكي والمحصلة: عدد غير معلوم من المدعوين. من هنا يأتي المبلغ الذي لا مناص من دفعه في ليلة العمر؛ مبلغ الوليمة الألفية. نعم العدد التقريبي الذي تبنى على أساسه قاعات الأفراح يراوح بين الألف والألف وخمسمئة شخص.

الدخول إلى قاعة الأفراح

فلندخل معًا لقاعة أفراح في عام 2018 في العاصمة السودانية. بداية يجب التوضيح أنني استخدم لفظ قاعة مجازًا للتعبير عن عدة أماكن مختلفة، فهنالك نوادٍ مهنية اجتماعية تحتوي على مساحات خضراء ممتدة بلا أسقف كالنادي الدبلوماسي ونادي الضباط والنادي القبطي ودار المهندس ودار الأطباء وغيرها من الدور التي تتيح للمنتسبين إليها تخفيضًا لإيجارها، إلّا أنها لا تتناسب مع أعراس موسم الخريف التى تكثر فيه الأمطار. لدينا أيضًا الخيم المتنقلة التى تصمم لتحاكي هيئة صالة بتكييف مناسب وتجهيزات كاملة، ثم يتم وضعها في شوارع فرعية تكون في الغالب قريبة لمنزل العروس. ورغم تعطيل المرور والتسبب بضجيج في أحياء سكنية، لا يتذمر السودانيون، بل قد تجد من يطرب لأصوات الحفل القادمة من شارع مجاور ويتحسر لأنه لا يستطيع الذهاب لأنه لا يعرفهم. وختامًا يوجد الخيار الأكثر شيوعًا، وهو الصالات المبنية في الأساس لهذا الغرض،  فلا تخشَ من تقلبات الطقس، وهي تنتشر في الخرطوم وبحري وأمدرمان، وعليه ينتقي الأقرب منها لمنزل أهل العروس.

تقسّم قاعة الفرح بالضبط  كعرس في الولايات المتحدة الأمريكية، أو في أغلب دول العالم التي صبغت بالعولمة، فلم يبقَ من خصوصيتها المحلية سوى ملامح؛ ممر للدخول ثم طاولات للحضور ومسرح صغير للفرقة الموسيقية، تقابلها باحة للرقص وفي الطرف الآخر يجلس العروسان في ما يُسمى "بالكوشة".

العروسان في الكوشة والرقصة الخاصة

الكوشة تعد بنسقين: نسق حفل الزفاف بألوانه التى تختارها العروس سواء بالوردي أو البنفسجي أو الذهبي ممزوجًا بالبياض. أما النسق الآخر فهو بالضرورة يحمل طابع "الجرتق" الذي يعيد قاعة الأفراح للمحلية السودانية  فتتحول للأحمر والذهبي. الجرتق هو طقس قديم تبدع الأسر في الحفاظ على تفاصيله

يبدأ الحفل برقصة الزوجين (slow dance) ، يغلبها الخجل، فليست رقصة تم التدرب عليها على الطريقة الأمريكية بل تميل للارتجال، بينما ينشغل منظمو الحفل بإبقاء الدارة خالية من أي شخص سواهما.

بالنسبة للتنظيم توجد عدة شركات توفّر خدمات متكاملة، من بينها تنسيق القاعة وإضافة جماليات للطاولات والمدخل والممرات.  تهتم شركة التنظيم أيضًا بترتيب خطوات الحفل، فيسلط الضوء على ممر الدخول مع نغمات الزفة ويُخلى المكان من أي حركة، ثم تشغل أغنية الرقصة الأولى وهكذا. هذا التنسيق لا يلغي دور وصيفة العروس الأساسية التى تسمي بالوزيرة، فعلى مدار شهور تحرص هذه المختارة على أن تكون ليلة صديقتها مثالية.
يؤمن السودانيون قديمًا بأهمية الجرتق، ولربما لا يزال هنالك خوف عميق من التخلى عنه، فذلك يعيق الحمل والولادة ويجلب سوء الطالع، ومن يريد ذلك له!؟ أما العروس فهي آخر من يستغني عنه.
للعريس أكثر من وزير، في الحقيقة تفاصيل اليوم لا تعنيهم كثيرًا، كما هو متوقع. لكنهم يعاونونه في تفاصيل إيجار عربة الزفة وتزيينها وتوفير وسائل نقل الأهل من قاعة الأفراح وإليها.

الفرقة الموسيقية والدي جي

الملمح السوداني الآخر للفرح، بالإضافة للجرتق، هو الفرقة الموسيقية مع المطرب و"الدارة" (الدائرة التي يتجمع فيها الأقربون للرقص). يتغنى المطرب بأغانيه الخاصة، لكنه يركز على أغنية أو إثنتين تناسب أجواء الاحتفال، حتى وإن كانت لمطربين آخرين. ترتفع الموسيقى وينسجم الجميع مع الأنغام تحت إضاءة تتبدل ألوانها. وجودك في الدارة هو تعبيرك الحقيقي عن أهمية العرس لك. إن كنت من الأصدقاء والأهل المقربين، تجد أنك لا تكاد تغادرها طوال ساعات الحفل.

ينتهي الحفل في الغالب بعد ساعتين إضافيتين، إحداهما لفاصل من أغانٍ إنجليزية سريعة بواسطة دي جي DJ أو مسجّل، ويليه الجرتق وقد يكون فيه فنانة تغني الأغاني الخاصة بها، تبالغ في مدح أهل العروس والعريس ونسبهما بإيعاز ممن يقف إلى جانبها ويمدها بالأسماء والأحياء والقبائل وغيرها من التفاصيل. رغم تلقيها للأجر المتفق عليه، أحيانًا تجد هبات مالية من ذوي الفرح تقديرًا لأدائها المبهج. يبدأ الجرتق بالثياب: يرتدي العريس جلبابًا وشالًا (جلابية وتوب السرّتي)، الجلابية بيضاء بخطوط حمراء على إحدى جانبيها. أمّا توب السرتي فهو مزيج من الأحمر والذهبي معًا، يضع المحتفي به طاقية بيضاء بمنتصف الجبين نجد فيها هلالًا من الذهب الخالص. تظهر العروس بعد أن بدلّت مكياجها –قرب منتصف الليل بعد نهاية حفل الزفاف- ليصبح مكياجًا أكثر حدة، فالجرتق يتماشى مع الكحل والمبالغة في كل شيء.  فستانها أحمر بالضرورة، تلف حوله ثوبًا سودانيًا من الحرير السويسري أو الإيطالي أو الفرنسي باللون الأحمر مطرزًا وشديد البهرجة وتتغطى من رأسها حتى قدميها بفركة القرمصيص، وهو شال يشبه سرتي العريس بكاروهات بالأصفر والأحمر والذهبي. بعد أن يلتقيا، تكون العروس قد أظهرت وجهها وتخلت عن الفركة وصار بالإمكان رؤية كامل زينتها: شعرها الذي ترقد عليه شبكة من الفصوص المترابطة على شكل قبعة صغيرة براقة،  فيما يسمي بالجدلة، ثم أذناها بأقراطهما التي قد تمتد من أحدهما سلسلة تمسك بزمام على الأنف وتُسمى بـ الرشمة، إلّا أنها لم تعد رائجة اليوم. يتدلى من عنق سيدة الحفل عقد مخصوص يدعي السيموتة،  يتميز بوجود خرزة إسطوانية  سوداء في نهايته، وعند خصرها يلتف حزام رفيع رقيق بالكاد يمسك بالتوب. كل ما ذُكر أعلاه مصنوع من الذهب الخالص وتحفظه الجدّات، فهذه الزينة الخاصة بالجرتق تورث جيلًا بعد جيل عند العوائل أو كما يحدث مؤخرًا، تؤجر ضمن مستلزمات العرس لمدة ليلة. ولا يقبل أصحاب المحالّ بضمان لبضاعتهم سوى الذهب، حتى لو كانت زينتهم تلك إكسسوارات مطلية وليست أصلية. يجلس العرسان على كوشتهما، التى تتبدل ملامحها لتحاكي سرير "العنقريب" المخصص للجرتق قديمًا، وفي الحال تحضر طاولة أمامهما تحتوي على المواد اللازمة للطقس المليء بالتفاصيل الدقيقة. تنتخب أم العروس وأم العريس من يقوم بمراسم الجرتق، على أن تكون سيدة ما زال والداها على قيد الحياة. تقول جدتي لا بدّ لمن تجرتق عليها أن تكون "وسط والديها"، فالجرتق اختصاص نسائي. تُمد سبحة (مسبحة) ضخمة على عنقي العروس والعريس ويخص كل منهما بسبحة أخرى زرقاء؛ سبحتي اليسر.  ثم يوضع مقدار إصبع من بودرة الضريرة، وهي مسحوق الصندل وعطور أخرى تقليدية على منابت شعر العريس بعد الجبين مباشرة وكذلك للعروس، ثم يشربان القليل من كأسي حليب لكل منهما كأس وينفخ الإثنان بشي لا يلحظ من بقايا اللبن على شريكه. INSIDE_SudaneseWedding2 في هذه الأثناء تقوم فتيات من أسرة العروس بتوزيع "الفال" وهي مغلفات صغيرة كهدايا لحضور مراسم الجرتق  تحتوي على الحلوى والبخور وعطر تقليدي ثم يكرم الضيوف بالفاكهة والرز باللبن واللحم المشوي، لكن حاليًا وبوجود الجرتق كجزء من ليلة الزفاف، قلما يقدم اللحم إذ لم تمضِ ساعات عديدة على تناول الحضور لوجبة العشاء. إعلانًا لنهاية الجرتق، تنتقل بعض الحلوى بين يدي الزوجين سبع مرات ثم ينثر العريس عطرًا على الحاضرات المتحلقات حول الكوشة، وبيده الأخرى يرمي لهن بالحلوى الجاهزة التى تبركت بالأشواط السبعة. غني عن الذكر أن من تصيبها ذرات العطر من المدعوات، فهذا يعني بأن حظًا جيدًا ينتظرها. يؤمن السودانيون قديمًا بأهمية الجرتق، ولربما لا يزال هنالك خوف عميق من التخلى عنه، فذلك يعيق الحمل والولادة ويجلب سوء الطالع، ومن يريد ذلك له!؟ أما العروس فهي آخر من يستغني عنه.

بهذه البساطة الملازمة لمجتمع العاصمة السودانية الساعي للحداثة في تفاصيل إقامة الحفل، تتم دعوة الحضور بطريقة تشبه التسويق الشبكي والمحصلة
ورغم تعطيل المرور والتسبب بضجيج في أحياء سكنية، لا يتذمر السودانيون، بل قد تجد من يطرب لأصوات الحفل القادمة من شارع مجاور ويتحسر لأنه لا يستطيع الذهاب لأنه لا يعرفهم.
هذا التنسيق لا يلغي دور وصيفة العروس الأساسية التى تسمي بالوزيرة، فعلى مدار شهور تحرص هذه المختارة على أن تكون ليلة صديقتها مثالية. 
وجودك في الدارة هو تعبيرك الحقيقي عن أهمية العرس لك. إن كنت من الأصدقاء والأهل المقربين، تجد أنك لا تكاد تغادرها طوال ساعات الحفل. 
إرسال دعوة الفرح عبر الفيسبوك

كل شيء في العرس السوداني المعاصر يزيد وينقص حسب الميزانية المتوفرة للطرفين، إلّا تلك الوليمة التي بدأت حديثي بها، ولا يتحدث عنها أحد. فمن الكرم أن يدعو أهل الفرح الجميع، حتى وإن كانوا بعيدي الصلة ومهما كانت التكلفة، سيُرسل بريد إلكتروني للموظفين كلهم ويُضغط زر اختيار الكل في قائمة الفيسبوك، ويخبر العريس أخته أن تخبر من تشاء، وتقوم هي بدعوة زملاء العمل والدراسة  كلهم، وهكذا في متوالية هندسية مذهلة. وإن لم تفعل، يا عزيزي العريس، فستجد قوائم من اللوم والعتاب في مختلف علاقاتك الاجتماعية وستطاردك إلى أمد بعيد. مجرد التفكير في تحديد الدعوة ببطاقات، وتعيين حراسة تضبط الدخول، يضعك في موضع الخاسر في رصيدك الاجتماعي بالجملة. وذلك، عوضًا عن تقليص عدد الحضور، تلجأ العروس للتخلي عن حفل ليلة الحنة، وربما تلغي حفل "رقيص العروس“، على الرغم من أن هذا الطقس هو إحدى إمنياتها. حتى ”الجرتق“ الذي كان يقام في ليلة منفصلة  قديمًا، انضم حاليًا لترتيبات حفل الزفاف لتقليص الميزانية. قد يقدم الإثنان على جميع ترتيبات الوليمة الألفية، بينما لا يحتوي عش الزوجية على ثلاجة أو فرن وغيرهما من أساسيات الحياة. يعود الجميع لمنازلهم وتتساءل العروس عندما تشاهد شريط الفيديو لليلة الفرح فيما بعد: من تلك؟ و من هذا؟ وهذا طبيعي، كيف لها أن تعرف الألف نسمة التي حضرت الفرح؟

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image