منذ 18 مارس 2011، مرّ أكثر من سنتين ونصف على بدء انتفاضة الشعب السوري ضد نظامه. الانتفاضة مستمرة والمتغيّرات سريعة إلى درجة المفاجأة أحياناً. انقضاء كل هذا الوقت صار يفرض الخروج من ثنائية نظام ـ معارضة التبسيطية.
يتعامل معظم السوريين مع ثورتهم وكأنها دين جديد يكفي الدخول إليه للتطهّر من آثام تأييد النظام. يتناسون أن مفهوم الثورة هو مفهوم سلبي تدميري وليس مفهوماً إيجابياً يطرح الحلول للمشاكل التي ثار بسببها الشعب السوري. حتى وقت قريب كانوا يغدقون على مَن يحمل صفة "معارض للنظام" كل الأوصاف الحميدة. صارت المعارضة كالحج يولد السياسي بعد تأدية مراسمه من جديد.
في القرن الماضي، لم تكن تُطرح على الثورات والانتفاضات والانقلابات جملة التحديات التي تطرح عليها الآن. كان التغيير في زمن ثنائية القطبية يعني تطبيقاً لبرامج وسياسات تدفع إليها إحدى القوتين العظمتين. في أصعب الحالات كانت الحركات التغييرية (والتغيير لا يعني بالضرورة أنه إيجابي) حركات أيديولوجية تمتلك نظرة شمولية للمجتمعات. بمعنى آخر، كان المسار الذي سيعقب التغيير شبه معروف.
ربما لهذه الأسباب مرّت عمليات التغيير التي شهدتها دول الاتحاد السوفياتي السابق بشكل سلس إلى حد بعيد. فالتغيير كان يعني التخلّي عن النموذج السوفياتي وتطبيق النموذج الغربي بما يحويه من آليات دمقرطة وتحرير للاقتصاد.
بعد حوالي سنتين ونصف السنة من انتفاضتهم، لا يزال السوريون عالقين في ثنائية معارضة ـ نظام. منذ البدايات حوّلوها إلى ثنائية يتقابل فيها الخير المطلق مقابل الشرّ المطلق. لذلك تمحور أول خلاف بين الأطر المعارضة حول تراشقهم بتهمة: "أنت لست معارضاً إلى درجة كافية". أنكروا حقيقة أن المعارضة يمكن أن تأخذ أشكالاً متعددة. استسهلوا التبسيط لأن هذا يعفيهم من النقاش الصعب.
مرت الأيام وهي لا تمرّ بشكل طبيعي، بل تمرّ آخذة معها آلاف الضحايا. تبلورت الخطوط العامة لعشرات الطروحات المعارضة التي تبدأ من الدعوة إلى سوريا علمانية وتصل إلى تأسيس خلافة إسلامية أو إمارة إسلامية على جزء من الأرض السورية. رغم ذلك لا يزال البعض مصرّاً على التشبث بثنائية البدايات.
لا شك بأن كل طروحات المعارضة تتقاطع في نقطة رحيل الرئيس السوري بشار الأسد. ولكن القسمة التبسيطية تصلح للاستخدام فقط في بدايات الانتفاضات أو في عمليات التغيير التي لا تتطلّب وقتاً طويلاً. لذلك المطلوب من المعارضين السوريين تجاوز أنفسهم والاعتراف بتعقيدات الواقع السوري والانتقال من سلبية مفهوم الثورة إلى إيجابية طرح رؤاهم لمستقبل سوريا. حتى اللحظة لا يعرف معادو النظام السوري سوى الهروب إلى مستقبل يتخيّله كلّ منهم على قياس أفكاره.
يعود "عقم" أطر المعارضة السورية وترحيلها التحدّيات الأساسية إلى المستقبل لتأثرهم بالفلسفات الاجتماعية التي تقسّم تناقضات المجتمع إلى تناقضات رئيسية وتناقضات ثانوية فيعتبرون أن التناقض الرئيسي هو النظام. لا يستجيبون للتحدّي الفائق الخطورة وهو حقيقة أنهم لم يعودوا يجتمعون سوى على فكرة إسقاط النظام وأن سقوطه سينقل سوريا إلى حرب أهلية أشدّ ضراوة لن تبقي حجراً على حجر.
عجز أطر المعارضة السورية عن بناء تصوّر مشترك لمستقبل سوريا دفع الشعب السوري إلى حالة سلبية صارت تهدّد مصير انتفاضتهم. انقسموا بين متمنّين لرحيل النظام السريع يمنون أنفسهم بمستقبل يستحق التضحيات التي بذلت حتى الآن، وبين متمنّين لعودة سيطرة النظام باعتبار أن القمع المركزي أفضل من الفوضى اللامركزية التي تأكل بلادهم. شعور الشعب السوري بالعجز ظهر جليّاً حين أقصى "أصدقاء سوريا" المجلس الوطني عن المعارضة ودفعوا باتجاه تشكيل الائتلاف الوطني، وحين غيّروا تركيبة الائتلاف. أمام هذه التبدلات في قيادة معارضتهم لم يجد السوريون أمامهم سوى تمنّي أن يكون اللاحق أفضل من السابق.
معظم المعارضين يظنون أن بإمكانهم الاستمرار في معارضة النظام وإيكال تحسين حياة السوريين إلى القدر. لا يأخذون أحداث الحاضر بعين الاعتبار. لا يعيرون اهتماماً للكمّ الهائل من التناقضات التي ولدت بعد اندلاع الانتفاضة السورية (وهم سببوا كثيراً منها بسبب تعاطيهم الطفولي مع مجتمع متنوّع كالمجتمع السوري) وهُم الذين لم يعرفوا كيف يتعاملون مع المشاكل التي كانت موجودة أصلاً.
قراءة سريعة في التجارب اللبنانية والأفغانية والعراقية تكفي لكي يفهم المعارضون السوريون أن الاجتماع على تغيير النظام لا يعيش أكثر من أشهر قليلة وبعدها يتشظى المعارضون، ومن ثنائية البداية تولد ثنائيات كثيرة ومن الصراع المؤسس للانتفاضة تتكوّن صراعات كثيرة. سوريا ليست استثناء. إلى جانب محاربتهم للنظام الديكتاتوري على المعارضين بذل جهد موازٍ للاتفاق على رؤية مشتركة لمستقبل سوريا كي لا تستمر الحرب إلى ما شاءت التوازنات الدولية.
مسألتان أخلاقيتان تحكمان العمل السياسي في سوريا الآن: الأولى، تأييد الثورة السورية ليس حجاً كافياً للولادة من جديد؛ والثانية، تأييد الثورة السورية هو شرط ضروري للتمتع بأخلاق سياسية "حميدة" ولكنه شرط غير كاف أبداً. فبعض الطروحات التي وجدت لنفسها مكاناً بين المعارضين السوريين ستجعل الشعب السوري، إن سادت، يترحّم على زمان النظام!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...