التزام بقضيّة العنصريّة
من خلال الفيلم الحائز الجائزة الكبرى في مهرجان "كان" المنصرم -ثاني أفضل جائزة بعد السعفة الذهبية- عاد سبايك لي للمرة الثانيّة إلى الكروازيت بعد 29 سنة من الغياب. هو المولود في زمن شكّل فيه الممّثلون الأميركيّون من أصل أفريقيّ استثناء في هوليوود، فكيف بالمخرجين؟ الحقيقة أن سبايك لي هو مخرج نادر، السبب هو التزامه بقضيّة العنصريّة، لم يذهب سينمائيًا خارج هذه الحدود التي رسمها لنفسه.
تفاوتت نبرات أفلامه، في البداية نفث الغضب من خلالها، واجه العنصريّة بطريقته الفجّة ولكنّه أيضًا مارس نقدًا ذاتيًا على أبناء جلدته. لكنّ الرجل رمى عنه وزر كثير من غضبه خلال رحلته السينمائيّة. ساد اعتقادٌ أنّه ربما أفسح المجال للمغفرة، تاركًا وراءه الماضي، لكن المخرج الاستفزازيّ عاد بصورة أكثر غضبًا ونقمة. غضب استفحل في فيلمه الأخير وفي جميع إطلالاته وتصريحاته، يكيل سيلاً من الشتائم بينما لا يغيب لفظ "الزنوج" عن لسانه. "الولايات المتحدة بلد قام على الإبادة الجماعيّة والعبوديّة"، "هذا الرجل في البيت الأبيض ترامب، لديه زرٌ نووي في متناول يده"، "أنا مقتنع أن الولايات المتحدة أفضل من كل هذا، فالمشكلة ليست مشكلتنا فقط: هؤلاء النازيّون الجدد موجودون في جميع أنحاء العالم". كلمات صدحت من فمّ الأميركيّ الغاضب خلال المؤتمرات الصحفيّة التي تبعت عرض الفيلم.
إنّ الفيلم بمثابة مطرقة تهشّم العنصرية، يروي فيه قصة حقيقيّة لشرطي يدعى رون ستلوورث (جون ديفيد واشنطن)، الذي انضم عام 1979 إلى منظمة كو كلوكس كلان (KKK) العنصريّة، متسلّقًا برشاقة وسرعة الهرم التنظيميّ. كان رون أوّل رجل أسود في قسم شرطة "سبيرينغز" في كولورادو الولايات المتحدة. لكنّ صاحب البشرة الداكنة حاز مساعدة بعض أبناء البشرة البيضاء: هو تولّى الحديث عبر الهاتف مع أعضاء المنظمة بينما رفيقه اليهوديّ الأبيض (آدم درايفر) قابلهم شخصيًا.
التعرّف على الروح الثوريّة
في الواقع، الفيلم متعدد الطبقات. على السطح، نرى ما كنّا نتوقعه من فيلم جديد لسبايك لي: خطب دعائيّة أيديولوجيّة قديمة أو جديدة تحفّز الروح الثوريّة والناقمة للعرق الأسود. نتعرّف إلى قليل من ثقافة هذا العرق في أميركا، معاناته القديمة والجديدة بحسٍّ فكاهي وساخر في بعض الأحيان. في العمق إيحاءات غير مباشرة خفيّة وأكثر قيمة. فبينما يتسلل دون إلى داخل المنظمة المتطرفة، يتسلل سبايك لي إلى طبقات قضيته الشائكة. أوّلاً شرطي "أسود" البشرة في الشرطة القوقازية الطابع، ثم تسلل آخر أقل وضوحًا وأكبر وقعًا داخل حركة "القوة السوداء" المناهضة للعنصريّة. ثم تسلل أخير أكثر شخصانيّة في العلاقة بين رون و باتريس (لورا هارير) قائدة مثقفة في حركة التمرد، هي تتحدى رون بسبب تناقض سافر يشوب الرجل، كيف له أن يكون شرطيًا عميلّا للحكومة وفي الوقت نفسه ملتزمًا تجاه القضية. ثلاثة تسللات تشدّ طبقات الفيلم.
تفاوتت نبرات أفلامه، في البداية نفث الغضب من خلالها، واجه العنصريّة بطريقته الفجّة ولكنّه أيضًا مارس نقدًا ذاتيًا على أبناء جلدته. لكنّ الرجل رمى عنه وزر كثير من غضبه خلال رحلته السينمائيّة.
لحقيقة أنسبايك لي هو مخرج نادر، السبب هو التزامه بقضيّة العنصريّة، لم يذهب سينمائيًا خارج هذه الحدود التي رسمها لنفسه.
عودة سبايك لي إلى الماضي ليست تأريخًا، العنصرية لا تزال في الأرجاء، وفي الولايات المتحدة و في كلّ مكان. عنصريّة ضد المهاجرين، عبودية للعمّال الأجانب، وخلافات على أسس عرقيّة وثقافّية تؤدي إلى حدّ القتل.
فيلمٌ يُستهلّ بنكتة مبكيّة من الماضي ولكنها ممتدّة حتى اليوم، عصر صعود "التطرف الأبيض" من جديد في الولايات المتحدة الأميركيّة.
استخدام سياسيّ للسينما
الفيلم أيضًا مثال حيّ عن الاستخدام السياسيّ للسينما، تحضر العبارات والمشاهد العنصريّة من فيلم "ذهب مع الريح" عام 1939، ومشاهد من فيلم "ولادة أمّة" عام 1915، الذي عُرف بطابعه العنصريّ الداعي لسيادة البيض والممجد لجماعة كو كلوكس كلان. وفي النهاية عودة إلى الواقع بحذافيره عبر المشاهد الوثائقيّة لأعمال الشغب التي قام بها النازيّون الجدد في شارلوتسفيل في الولايات المتحدة العام الماضي.
لم يقدّم سبايك لي التمييز العنصريّ في إطار فيلم ممتعٍ عن عمل الشرطة فقط، بل أضاء كذلك على الخلفيّات التاريخيّة، وعلى جوهر السينما وعلى الحاضر. هي خلطة من الحقائق القديمة والجديدة مع قليل من المبالغة المعهودة، فالخيال دومًا فيه كثيرٌ من الحقيقة.
الفكرة هي بناء فيلم إثارة بروح كوميديّة، بينما يعكّس قضية وحقائق مثيرة للشفقة، من الأمس بإيقاع اليوم. الفيلم يتنقّل بحرية في الزمان، بين "سينما الاستغلال" وشخصيّة جون شافت الأيقونة وموسيقى إسحاق هايز، بين الشعر الأفريقيّ والتصريحات الثوريّة. لم يعدّ سبايك لي هذا الخليط بحنين إلى الماضي، بل بتفانٍ تام للحقيقة واحساس خالص بالارتباط بها، لم يخشَ الأميركي إجراء مراجعة لدور أبناء جلدته، لمن يتحملون بعضًا من اللوم جرّاء ما حدث ويحدث اليوم.
عبقريّة سبايك لي واضحة في إستراتيجيته خلال تركيب الفيلم، إذ عمد إلى نقل المشاهِد إلى مكان مريح وآمن، كلّ شيء يبدو على ما يرام بينما يسود جوّ مبهج ومضحك، أما كل ما هو وحشيّ فهو في الماضي. هكذا هدّأ الرجل جمهوره القلق على مصير الحرية والمساواة، كل شيء على ما يرام. ثم فجأة يشهر لي إصبعه الوسطى، آتياً بمشاهد وثائقيّة من آب/ أغسطس العام الماضي، يضع ترامب في وجوهنا وتصريحاته حلقات في آذاننا: "كلا، كل شيء ليس على ما يرام".
عودة سبايك لي إلى الماضي ليست تأريخًا، العنصرية لا تزال في الأرجاء، وفي الولايات المتحدة وفي كلّ مكان. عنصريّة ضد المهاجرين، عبودية للعمّال الأجانب، وخلافات على أسس عرقيّة وثقافّية تؤدي إلى حدّ القتل. سبايك لي من خلال الفيلم يقولها بالفم الملآن، يمرّغها في وجوهنا؛ الماضي هو اليوم. صدى كلمات زعيم كو كلوكس كلان عام 1978 يتردد اليوم على لسان رئيس أقوى دولة في العالم، فهل هناك داعٍ للقلق؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...