هي المرّة الأولى التي أدخل فيها العراق، أو قد تكون الأولى. فمَن يسكن المناطق الحدودية، يجد نفسه أحيانًا على الجهةِ الأخرى دون علم. حين عبرنا الحدودَ تلقّانا الجنودُ الأمريكيون طالبين بصمةً كما ترجم المترجم. شمرت عن ذراعيّ، كأنني داخلٌ على وجبة مفطّح في صينيةٍ كبيرة. قالت الجنديّةُ الأمريكية…... وأشارت لِعيني. ترجم المترجمُ: بصمةُ عَين. كانت الجنديةُ تشبه الرّجالَ لولا ابتسامتها الطارئة على التشمير عن ذراعي. إذًا باتت بصمةُ عيني في الولايات المتحدة الامريكية، وأُعدّ لي ملفٌّ في وكالاتِها الأمنية، وإن فكّرتُ في يوم من الأيام بخزنة تعمل ببصمة العين، فبإمكان عملائِهم فتحُها، أو فتح هاتفي الغبيّ. قد يكون ابنُ بطوطة مَن قال ما معناه "وإذا أطلْتَ العيشَ فيها تُصاب بالغباء وفقدان الذاكرة". وكان يقصد المدينة التي أعيش فيها. ولن يختلف الأمر مع أيِّ ذكاء، فالرّحّالةُ صادقون أبدًا. بعد أن عبرنا الحدودَ والبصماتِ، تلقّتنا الحدودُ ولاحظْنا تغيرًا في السّماءِ وفي النسمة وفي اللّغة. ليست بتغيراتٍ كبيرة! كنّا اثنين. صاحبي ضاع بين الناس، بينما أنا –وكما قالوا لي- معالمي واضحةٌ بأنّني لستُ من البلد. مُرافقُنا ودليلُنا والذي أصبح وليَّ أمرنا في اليوم الثالث، لا يفوّت فرصة في وضعِ ذاكرتِه عن المدينة بين أيدينا: هنا الليثُ الأبيض. قال لنا وهو يشحن صوتَه بالرعب. سألتُه عن معنى الليث الأبيض، فمازلتُ أذكر المسلسلَ الكارتونيَّ الذي يحمل نفسَ الاسم، فقال: هنا مركز الأمن سابقًا.
حين عبرنا الحدودَ تلقّانا الجنودُ الأمريكيون طالبين بصمةً كما ترجم المترجم. شمرت عن ذراعيّ، كأنني داخلٌ على وجبة مفطّح في صينيةٍ كبيرة. قالتت الجنديّةُ الأمريكية…... وأشارت لِعيني.
قد يكون ابنُ بطوطة مَن قال ما معناه "وإذا أطلْتَ العيشَ فيها تُصاب بالغباء وفقدان الذاكرة". وكان يقصد المدينة التي أعيش فيها. ولن يختلف الأمر مع أيِّ ذكاء، فالرّحّالةُ صادقون أبدًا.هذا هو المكان الأكثر رعبًا في البصرة؛ مَن يدخله لا يخرج منه، وإذا خرج، وقليلًا ما يحدث، فسيخرج إنسانًا آخر؛ إمّا مجنونًا أو ملفوفًا بكفنِ الجنون. كنّا نخاف العبورَ من أمامِه وإن عبرْنا فلا نرفع أعينَنا. قضينا الأسبوعينِ معه وهو ينزل علينا ذاكرتَه؛ ذاكرة مدينتِه التي لا تعرف سوى الحالاتِ الأمنيةِ والتعذيبِ والقتل. في منطقة عشّار البصرة، وبين نهرٍ صغير وشناشيلَ متعبةٍ قال: هنا... قاطعتُه: هل تدخّن؟ ودخّن وانشغل بموتِه، بينما كنتُ أتخيّل مَن كان يقف خلف الشناشيل. كان ذلك في 2009. وفي عام 2017 عدتُ للبصرةِ مرةً أخرى. هي الآن تلك البصرةُ التي عرفتُها عبرَ نصوصِها وأبنائِها الذين صادفناهم في غربتِهم. بعد أن انتهى مترجمُ كتابِ رواية "العقرب على أدراج سُلّم محطّة أنديمِشْك" للكاتب الإيراني حسين آبْكِنار، أخذَنا شاعرٌ خصيبيٌّ إلى بيتِه. أغنية الذين على النهر من (أمِّ النِّعاجِ) التي أسفلَ الجبل/ من (سِكَّة العون)، يحملها النهرُ،/ من مئات السنين../ ومن (السَّراجي) أيضا../ يأتي الخَشَّابة../ بيضٌ وسمرٌ وفلاَّحون/ من آفاق النَّخل، ومن كلِّ خِصٍّ منهدمٍ/ لبُّوا نداءَ الطبولِ، وجاؤوا/ دشاديشُهم (زُبيرّياتٌ) بيضٌ/ والدَّراجاتُ هواء.../ لكنَّ اليشامغَ حمرٌ، طائراتْ/ ومن مَفْرِقِ الأنهار حتى (باب سليمان)/ كانت الطريقُ تميلُ في النَّخلِ،/ تدورُ عليه، فتعقُصُه، عندَ جسرٍ بـــ(حمدانَ)/ أو في (السبيليات)/ فيما الماءُ يتخطفُ الجذوعَ القناطرَ،/ رائحًا في القُرى، حدَّ السباخ... ليست "أمّ النِّعاج" حتى "السبيليات" مجرّدَ أسماء لأماكنَ خصيبية. كان الشّاعر الخصيبيُّ يعيدنا إلى التأسيس. كلُّ شارعٍ له تاريخُه. هنا عرفتُ معنى قصائدِه. كان يحكي لنا ونحن في السّيارة ما لا نتخيّله، كان يعلّمنا كم نحبّ مدنَنا. في كلّ بقعةٍ تاريخ؛ فهُنا مقتطعٌ من قبل الإسلام، وهذا عبرَه الأمويّون، وتلك بناها العباسيّون والعثمانيّون وتركوا لهجةً، ومن هنا مرّ ملكيّون حالِمون، والموانئ لا تتوقّف في نقلِ اللّغات الصاعدة لهم. صاعدو النَّخل في النهار،/ باعةُ السَّهر، الراقصونَ في الليل،/ سوى الكمنجاتِ لم ينتحبْ أحدٌ/ وفي جِلَّةِ الطبلِ المفتوقةِ على الدنيا/ أعلى الباصِ، شجياً يتعبأ الهواءُ،/ ويحتضنُ المِرواسُ الشَّيخُ الصغيراتِ/ هذا الهَرمُ المبَحوحُ، لكم يحنو/ الليلةَ َ، كلُّ العَرَقِ أبيضُ في (أبو الخصيب)/ سوى التي في الشَّجرْ/ يقولُ الذي في يدهِ الكأسُ/ صارَ النسيمُ يجتلبُ الثملينَ إلى السَّواقي/ والنخلُ يرقصُ يا معتوق../ يا (أبو عتيكة): ليأتِ (الحكيمي) كما البارحة/ من شَوكٍ ،عوْسَجٍ، ما شئتَ.. من خيزران/ كنتَ تقرأهُ بعد كأسينِ، فصار دِنْ/ لا ماءَ، لا ليمونَ ، ولا أجاص/ هذا الليل طبلٌ وليل/ سدرةٌ لا تطيرُ عصافيرُها، صحبٌ بلا منتَظِرين/ والخشابةُ لا يثمِلون!!![1] وصلنا إلى بيتِ عائلة النّقيب بقُربِ شطّ العرب. قال الشّاعر الخصيبيّ طالب عبدالعزيز: هؤلاء أنتم. وأشارَ للّجهةِ الأخرى من النّهر حيث تلمع مصابيح. إذًا لا يفصلنا سوى النهر. فجأة غافلَنا صديقنا الأهوازيُّ وحضَن الشاعرَ الخصيبيَّ وبكى. هل بكينا معهما ساعةَ دهَمنا نسيمُ النهر من الضفّتين؟ راقبْنا احتضانَ قرونٍ في لحظةٍ خصيبيّةٍ وكانت البصرةُ تضجّ بالحياة، تضجّ بتاريخها، وبجمالها. كانت البصرةُ تقاوم الموتَ بالحياة. [1] قصيدة "أغنية الذين على النهر"، ديوان "الخصيبيّ"، طالب عبد العزيز.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...