شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
فيلم

فيلم "على بوابة الأبديّة": ركن فان غوغ الحميم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 10 أكتوبر 201809:54 ص

خرج وليم دافو من مهرجان البندقيّة هذا العام حاملًا جائزة أفضل ممثّل بعد أدائه الفذّ في "على بوابة الأبدية" (اسم لوحة لفان غوغ). الفيلم المرتقب إطلاقه في صالات السينما العالميّة قريبًا هو محاولة سينمائيّة جديدة تجتاح حياة الرسام الهولنديّ فنسنت فان غوغ بعد عدة أفلام عنه.

نشاهد فان غوغ هذه المرّة بعيون رسّام آخر، هو المخرج الأميركيّ، جوليان شنايبل، الذي يقدّم الفيلم السادس في مسيرته. الفيلم ليس مبتكرًا بطبيعة الحال، شخصيّة فان غوغ استهلكت مرارًا، لكنّ الرجل انتقى معالجة مميّزة ثمّ أجاد اختيار ممثله الرئيس فخرجنا بالنسخة الأكثر عاطفيّة وحسيّة.

يروي شنايبل لحظات غروب شمس فان غوغ، فيرينا إيّاه متأمّلاً للغروب ثمّ مسقطًا تأملاته على شكل لوحات. يقدّم شنايبل قوامًا جديداً لفان غوغ. لم يتجرّأ فينسيت مينيلي، روبرت التمان أو نوريس بيالات -وهم أبرز من أنجزوا افلامًا عنه- على تصوير عمليّة الخلق والإبداع، أي الرسم المباشر، فهم يرون الشق الإبداعي غير صالح لعمل تمثيلي. وهذا لُبُّ النسخة الأحدث، نرى فنسينت مرارًا وتكرارًا خلال عمليّة الرسم، بدقة متناهيّة وصولًا لضربات الفرشاة على اللوحة القماشيّة، هي خصوصيّة مقاربة شنايبل التي ترتبط بكونه رسامًا بدوره. نقل الأخير ببراعة انفعالات فان غوغ الفنيّة سلسلة من اللقطات التفصيليّة الواسعة صوّرت النشوة التي بلغها فان غوغ عند لقائه بالطبيعة، مصدر إلهامه الرئيسي، لا بل إنّه يرمي بالكاميرا في وجه فان غوغ ليحتل الصورة كاملة لنخترق تعابيره.
نرى فنسينت مرارًا وتكرارًا خلال عمليّة الرسم، بدقة متناهيّة وصولًا لضربات الفرشاة على اللوحة القماشيّة، هي خصوصيّة مقاربة شنايبل التي ترتبط بكونه رسامًا بدوره.

"على بوابة الأبدية"، ليس سيرة ذاتية نموذجيّة كما يتوقع المرء من فيلم سينمائيّ يتحدث عن فنانٍ مبدع. الفيلم إعادة تشكيل خلّاق وحرفي للفترة الأخيرة من حياة الرسام الهولنديّ بعد انتقاله إلى مدينة آرل في جنوب فرنسا عام 1886، بحثًا عن "ضوء أفضل" كما قال هو نفسه يومها، ولكن أيضًا بعد حصاره في عيادات الطب النفسيّ، انهياراته المتتاليّة جرّاء الضعف الذي نهش جسده ونفسه وجرّاء شعور عدم الأمان الذي طارده في كلّ مكان.

تنطلق الشرارة من عبارة قالها الفنان المضطرب في بداية الفيلم: "أردت أن أكون واحدا منهم"، هي رغبته بأن يكون رجلًا إعتياديًا قادرًا على نسج علاقات إنسانيّة مع هؤلاء الذين يحبّهم من زميله الرسام بول غوغان (إسحاق اوسكار) وشقيقه تيو (روبرت فرند). الفيلم ليس سردًا للأحداث أو لتفاصيل الحياة اليوميّة، التقط الأميركي جزئيات من مذكّرات ورسائل الرجل المرتبطة حصرًا بتكوينه الفني الفريد، كيف يبصر العالم بطريقته المختلفة والمميزة فينجز فنًّا خلاقًا؟ ثمّ كيف تتسبب رؤيته هذه بصراع دائم مع محيطه وحتى مع نفسه؟
الفيلم إعادة تشكيل خلّاق وحرفي للفترة الأخيرة من حياة الرسام الهولنديّ بعد انتقاله إلى مدينة آرل في جنوب فرنسا عام 1886، بحثًا عن "ضوء أفضل".
لكنّ وعي فان غوغ ليس مغيّبًا، يصوّره شنايبل معترفًا "بجنونه" ومدركاً لـ"اختلاله"، فتتكرر على لساناته عبارات من قبيل: "أشعر أحيانا أنني أفقد عقلي".
يريدنا شنايبل داخل عقل فان غوغ وفي ركنه الحميم، يعرّفنا إليه علّنا نفهم ونتفهّم "جنونه" المفترض. لكنّ وعي فان غوغ ليس مغيّبًا، يصوّره شنايبل معترفًا "بجنونه" ومدركاً لـ"اختلاله"، فتتكرر على لساناته عبارات من قبيل: "أشعر أحيانا أنني أفقد عقلي". يتأرجح فان غوغ في نسخة شنابيل بين رقة الأطفال وغضب الهستيريّين. داخل البوابة الأبديّة علاقات مضطربة. تربط فان غوغ علاقة أكثر من أخوية بأخيه تيو، إنها الأبويّة الطارئة وغير الكافيّة لإصلاح الخلل أو ملئ الفراغ. ثم علاقة متراوحة بين الحبّ والتنافس والشجار والتخلّي مع الصديق والزميل غوغان. شنايبل يرى في فان غوغ شخصيّة نقيّة ولذلك بسّط تعقيدات شخصيته، فمنحنا الانطباع عينة خاصّة مع أداء دافو المثالي. مبهرة قدرة دافو البالغ من العمر 63 عامًا على تجسيد فنسينت ابن الـ37 عامًا متغلبًا على الفارق العمري.
اختار شنابيل معلوماتٍ محددة دون غيرها من ذكريات فان غوغ. تفانى في رسم صورة واقعيّة ولكن أيضًا مليئة بالإعجاب والاحترام
عاد الممثل 26 عامًا إلى الوراء ثمّ أكثر، استحال طفلاً على سرير المشفى قرب أخيه، ابن الـ63 عامًا بات طفلاً خائفًا يبحث عن راحة نفسٍ مبدعة عذّبها المحيطون. هل تذكّرنا معاناته بأحد؟ التلميحات الكريستولوجيّة حاضرة بفجاجة حتى بلغت ذروتها في حوار فان غوغ مع الكاهن (مادس ميكيلسين)، يرد الفنان بغطرسة على احتقار الكاهن له "فنّي قد لا يكون لهذا القرن". على الرغم من كل ما سبق، مرّت ساعتا الفيلم ببطئ في بعض المواضع. لم يكن الفيلم مثاليًا، تكرار مفرط ودوران حول حقيقة أنّ فان غوغ عاجزٌ عن التواصل مع المحيطين به.

اختار شنابيل معلوماتٍ محددة دون غيرها من ذكريات فان غوغ. تفانى في رسم صورة واقعيّة ولكن أيضًا مليئة بالإعجاب والاحترام، مفككًا إرادة هذا الفنان الانطباعيّ التي مكّنته من تجاوز فقرٍ مدقع ومشاكل عقليّة ونبذٍ من العموم. شنايبل لم يدر ظهره للجانب المظلم من فان غوغ، بل وضعه في سياق إبداعي مفهوم لشخصية معذّبة مبدعة فهمها قلّة، لكائن عاجز يدنو من النهاية. وهذا، أي افتتان المخرج ببطل فيلمه، هو تمامًا ما ميّز نسخة شنابيل ورفع من قيمة "على بوابة الأبديّة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard