حينما أراد الإنسان الضوء والدفء ليلًا وقليل من الصيد، اكتشف النار. وبالصدفة عرف أنه يستطيع العزف بعد النفخ في عظام موتاه، وعندما قرر الترحال تعلم الوقوف منتصبًا فاكتشف باقي العالم، إذًا متى شعر الإنسان بأنه بحاجة للغناء؟
على ما يبدو أن الدموع لم تكن كافيّة للتعبير عن مدى حزن البعض، وهنا بدأت رحلة البحث عن طريقة أقوى لإظهار مكنون ما في الصدور. وبعدما فشل البكاء واللطم والإغماءات حتى في التخلص من تلك المشاعر، اكتشف الإنسان أنه يستطيع الغناء فأنشد للآلهة أولًا.
ولأن الغناء اعتاد أن يكون رفيقًا للموسيقى طوال الوقت، فالحديث هنا سيُصبح عنهما، بين أنشودة نيكال ونوتة أوغاريت الموسيقيّة في عصورهما البعيدة، حينما قررت الآلهة سوريا أن تُسمع العالم صدى جديد من نوعه، فاستبدلت الصراخ بالغناء، حتى اعتاد العالم كله اليوم على الغناء، في الوقت الذي ربما عادت فيه سوريا بحزنها إلى الصّراخ.
أنشودة نيكال.. آلهة الأرض تُغني لآلهة السماء
في منتصف القرن العشرين، تمكّن علماء الآثار في سوريا من العثور على ما يقرب 29 لوحًا من الصلصال تعود إلى 3400 سنة ماضية داخل أطلال مدينة أوغاريت القديمة على ساحل البحر المتوسط "اللاذقية". كانت الألواح المسماريّة كلها قد تحطمت بالفعل إلى قطع صغيرة للغاية يصعب تجميعها مجددًا، إلّا لوح واحد سُمي ب "اتش-6" ساعد انقسامه إلى قطع كبيرة في نجاح محاولة تكوين صورة كاملة منه، ليجد العلماء أنفسهم أمام مفاجأة غيّرت حقائق كانت تبدو ثابتة حينها عن أصل الموسيقى والغناء، فاللوح أظهر أبيات شعريّة من "أنشودة نيكال" بصحبة أول "نوتة" موسيقيّة مكتوبة في العالم "أوغاريت".
وتحكي الأنشودة قصة "نيكال" زوجة إله القمر التي كُتب عليها العقم فظلت تبكي لرغبتها الشديدة في إنجاب الأطفال، وعلى الرغم من أن زوجها هو الموكل له بمنح الذريّة للأزواج إلّا أنه لم يستطع فعل ذلك مع زوجته وفقًا للرواية المتداولة، لذا ظنّت "نيكال" بأنها قد ارتكبت إثمًا في حياتها ويتم معقابتها بسببه، فقررت الابتهال لآلهة الأوغاريتيين ببذور السمسم وبعض الكلمات المؤثرة التي تمت ترجمتها لاحقًا مثل:
سأرمي عند قدمي الحق "أو قدمي عرشك المقّدس" خاتم رصاص
سوف أتطهر؟ وأتغير من الخطيئة
لم تعد الخطايا تغطيها ولا حاجة أكثر إلى تغييرها
قلبي مطمئن بعد أن أوفيتُ نذري
سوف تعزني مولاتي
ستجعلني عزيزًا على قلبها، فنذري سيغطي ذنوبي، وسيحل زيت السمسم بدلًا مني
في حضرتك اسمحي لي
إنك تجعلين العاقر خصيبة، والحبوب تعلو صعودًا
إنها الزوجة التي ستحمل الأطفال إلى أبيهم.. هي التي إلى حدّ الآن لم تعط أطفالًا تحملهم.
وعندما قرر الترحال تعلم الوقوف منتصبًا فاكتشف باقي العالم، إذًا متى شعر الإنسان بأنه بحاجة للغناء؟
عندما قررت سوريا أن تُسمع العالم صدى جديد من نوعه، فاستبدلت الصراخ بالغناء، حتى اعتاد العالم كله اليوم على الغناء حقًا، في الوقت الذي ربما عادت فيه سوريا بحزنها إلى الصراخ.
كانت اللغة التي قدمت بها سوريا رائعتها تلك إلينا هي الحوريّة، مكونة من كلمات وأرقام ما يُفسر صعوبة تحويلها إلى مقاطع ألحان مفهومة في عصرنا، حتى أن عملية الترجمة تلك احتاجت إلى ما يقرب من عشرين سنة لإتمام الأمر بشكل صحيح
الموسيقى نصف السحر الآخر.. أصداء من أوغاريت
نصف اللوحة الآخر حمل باقي السحر، أقدم نوتة موسيقيّة عرفها البشر يومًا والتي سُميت بأصداء من أوغاريت، ولعلّ السؤال الأبرز الذي قد يدور في خلدكم/ن الآن هو كيف كُتبت وكيف تُرجمت أيضًا؟
كانت
اللغة التي قدمت بها سوريا رائعتها تلك إلينا هي الحوريّة، مكونة من كلمات وأرقام ما يُفسر صعوبة تحويلها إلى مقاطع ألحان مفهومة في عصرنا، حتى أن عملية الترجمة تلك احتاجت إلى ما يقرب من عشرين سنة لإتمام الأمر بشكل صحيح وفقًا لريتشارد دامبريل، أستاذ الآثار الموسيقيّة، في حواره مع BBC الذي وصف فيه عقدين من عمله في دراسة ألواح أوغاريت قائلًا: "تمكننا من قراءة الخطّ المسماريّ البابليّ على لوح اتش -6 على الرغم من عدم فهمنا للغة التي نُقش بها بالتفصيل، ولكن مع محاولات ناجحة لتصوّر الشكل الأصليّ للوح مع الاستعانة بصور القطع أيضًا أنجزنا العمل"، مضيفًا أن صعوبة الترجمة تمثّلت في كون لغته هي الحوريّة التي تحدرت من شمال شرقيّ القوقاز قبل وصولها إلى سهول سوريّة الخصيبة، حيث هاجر مستوطنون إلى شمال غرب سوريا على مدار 2000 سنة تقريبًا.
واختتم دامبريل حواره ذلك في ثقة: "من الصعب ترجمة المكتوب لكنني تأكدت من أن النص المصاحب ضم تسميات موسيقيّة حوريّة-بابليّة شكّلت لحنًا موسيقيًا".
وحديثًا توصل العالم الفيزيائيّ، جورج فيتالي، إلى لحن يمتد لثلاث دقائق كاملة عُزف مرات عديدة، حيث قامت الفرنسيّة، تيريز مونلو، بمشاركة اللحن عن طريق البيانو، وعاد السوريّ، سعد الله آغا، لانتزاع الأصداء مرة أخرى بعزفها على آلة السنتور، قبل أن يُعيد مالك جندلي، الموسيقار السوريّ، توزيع النوتة التي قُدمت في كل محافل العالم، ليُكتب لسوريا بأنها صاحبة أول أغنية كاملة بكلماتها وموسيقاها في انتظار أن يخرج علينا أحدهم وقد نجح في غناء أنشودة "نيكال" مع عزف أصداء "أوغاريت" في نفس الوقت ربما، وحتى يحين ذلك نترككم تستمتعون بأقدم موسيقى لأغنية تغنت بها البشريّة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...