"تنتهي حريتي عندما تبدأ حرية الآخرين"، هذا القول الشائع يرسم الحدود التي نضعها بين "الأنا" والآخر، خاصة أن التعدي على المساحة الشخصية للآخرين تعني سلب حريتهم وتقييدها.
بطبعه، يصارع الإنسان دوماً للحفاظ على مساحته الخاصة وإبقاء هذه المنطقة الشخصية بمنأى عن تطفل الآخرين وعيونهم وألسنتهم، ومع التطور التكنولوجي باتت رقعة المساحات الشخصية الخاصة بالأفراد تتقلص خاصة مع تحول بعض وسائل التواصل الاجتماعي إلى أداة للتنمر والتجسس، وكأن حياة الآخر مع كل تفاصيلها الحميمية باتت مباحة للجميع.
صحيح أن مصطلح "المساحة الشخصية" حديث نسبياً إلا أن هناك أسباباً معيّنة تولد الشعور بالانزعاج وعدم الراحة جرّاء اقتراب الآخر منا وتجاوز الحدود الخفية التي نكون قد وضعناها في ذهننا، فكيف يتعامل البشر مع "المسافة الشخصية" الخاصة بهم؟
منطقة الفرار لدى الحيوانات
بالرغم من أن معالم الحدود بيننا وبين الآخرين تبدو غير واضحة أحياناً، إلا أن قواعد المساحة الشخصية تبقى مترسخة ومدفونة في وعينا، لأننا كبشر نتصرف ونستجيب بعفويةٍ تماماً كرقصة الحيوانات. هذه الرقصة الفطرية لما يعرف بـ"الفضاء الشخصي" درسها لأول مرة بشكلٍ علمي "هايني هيديغير"، الذي كان يدير حديقة زيوريخ في الخمسينات. فمع أن الحيوانات التي تقبع في حديقة الحيوانات تشعر بالراحة عندما يكون حجم أقفاصها مناسباً بشكلٍ صحيحٍ لتشكيل منطقة آمنة، إلا أن هايني عند دراسة سلوك الحيوانات البرية، لاحظ نوعاً آخر من "المساحة" وهي فقاعة صغيرة مرتبطة بالجسم وقد وصفها بأنها "مسافة الهروب" أو منطقة الفرار. via GIPHY وفي التفاصيل عندما تلاحظ الحيوانات البرية وجود حيوانٍ آخر خطير كالأسد مثلاً لا تلوذ بالفرار على وجه السرعة، بل تتصرف بحذرٍ ودقةٍ وكأنها تقوم بـ"تقييم هندسي"، فتدخل في حالة من الهدوء النسبي إلى أن يدخل التهديد إلى منطقةٍ آمنةٍ غير مرئيةٍ، وعندئذ تتحرك هذه الحيوانات البرية بعيداً وتعيد تشغيل منطقة الفرار.العرب، وفق رأيه، لديهم مساحة شخصية صغيرة وهو الأمر الذي يجعلهم يتصارعون بعضهم مع بعض عندما يتحدثون.
على غرار قيام رجل بالتصرف وكأنه يمتلك المساحة الشخصية الخاصة بالمرأة، وبما أن وسائل التواصل الاجتماعي أخذت مساحة شخصية من التفاعلات الإنسانية، فقد تعطي المرأة على الأقل مجالاً أكبر لكي يتم سماعها.والمثير للاهتمام أن مسافة الهروب هذه تكون ثابتة بما فيه الكفاية لقياسها على وجه الدقة، كما اتّضح أنه كلما كان الحيوان أكبر حجماً كانت منطقة الفرار أكبر والعكس صحيح، فقد أوضح "هيديغير" أنه يمكن الاقتراب من سحلية حائط لبضعة أمتار قبل أن تفرّ فجأة، في حين أن التمساح لديه منطقة فرار يبلغ طولها نحو 50 متراً مع العلم أن الحيوانات الأليفة لديها مناطق فرار صغيرة، غالباً لا تزيد عن مترٍ واحدٍ.
الفضاء الشخصي للبشر
في الماضي اعتبر أرسطو أن "الإنسان حيوان اجتماعي"، وفي حين أن البعض وقف بوجه هذه المقولة على تعتبار أنها تسيء إلى الكائن البشري، إلا أن العلم قد يتفق في بعض النواحي مع أرسطو وأفكاره الغريبة، لأن من يراقب سلوك الحيوانات وكيفية تفاعلها إزاء وجود تهديد، يمكن أن يسقط ذلك أيضاً على السلوك البشري. في هذا الصدد جذب البحث الذي قام به "هيديغير" على الحيوانات، اهتمام عالم النفس الأميركي "إدوارد هول" الذي نشر في العام 1966 كتاباً مميزاً عن الفضاء البشري الشخصي بعنوان The Hidden Dimension، واعتبر فيه أن سلوك البشر يشبه إلى حدٍ كبيرٍ سلوك الحيوانات، مشيراً إلى أنه بعد أن قمنا بـ"تدجين أنفسنا، أصبحت لدينا مساحة هروب صغيرة يستخدمها بعضنا تجاه بعض". via GIPHY قسّم "هول" المساحة الشخصية حول الناس إلى 4 مناطق ذات أحجامٍ مختلفةٍ: المسافة الحميمية، المسافة الشخصية، المسافة الإجتماعية والمسافة العامة، شارحاً طريقة اختلاف كل واحدة منها: فقد أوضح "إدوارد" أن المسافة الحميمية هي "قريبة جداً لدرجة أنك لا تستطيع حتى تركيز عينيك بشكلٍ صحيح"، وتحدث هنا عن المظهر الرومانسي الذي نسقطه على العشيق:" يتم النظر إلى الأنف وكأنه كبير الحجم وقد يبدو مشوهاً كما هو الحال بالنسبة إلى الملامح الأخرى مثل الشفتين والأسنان واللسان". أما المسافة الشخصية فهي التي تكون في حدود نطاق الذراع وهي المسافة النموذجية أثناء محادثة ودية في حفلات الكوكتيل، وفي حين أن المسافة الاجتماعية تتعدى حدود الذراع وتكون مناسبة لاجتماعات العمل أو التعارف، فإن المسافة العامة تكون أكبر بكثير وتتطلب من الشخص أن يرفع صوته ليكون مسموعاً. وأكدّ "هول" أن الثقافات على اختلافها لها أنماط مختلفة من "المساحة الشخصية"، فالعرب، وفق رأيه، لديهم مساحة شخصية صغيرة وهو الأمر الذي يجعلهم يتصارعون بعضهم مع بعض عندما يتحدثون في حين أن الشعب البريطاني يمتلك مساحة شخصية واسعة، غير أن الكاتب "مايكل غرازيانو" في كتابه The Spaces between us شكك في هذه الإدعاءات معتبراً أنها ناجمة عن القوالب النمطية الثقافية، إذ قال:" يبدو أن الفضاء الشخصي هو عالمي أكثر ومبني في الشفرة الوراثية البشرية"، معتبراً أن هذا الفضاء الشخصي يشكل "سقالة" مكانية غير مرئية تعمل على تأطير تفاعلاتنا الاجتماعية.عوامل مؤثرة على المساحات الشخصية
نستيقظ في كل يوم على أخبار التحرش الجنسي وانتهاك الفضاء الشخصي من خلال قيام البعض بالإساءة في التصرف وتجاوز الحدود الأدبية والأخلاقية مع الآخرين، مع العلم أن "لمس" الآخر بشكل غير ملائم يعتبر انتهاكاً واضحاً للمساحة الشخصية الخاصة به. فما هي العوامل التي تؤثر على المساحات الشخصية؟ بعدما نشر "هول" ملاحظاته واستنتاجاته، أجرى علماء النفس عدداً كبيراً من التجارب لدراسة ظاهرة "المساحة الشخصية" والعوامل التي من الممكن أن تؤثر عليها. وفي إحدى التجارب، طُلب من المتطوعين السير بعضهم نحو بعض والتوقف عندما تصبح المسافة بينهم وبين الأشخاص "غير مريحة"، إلا أنه نظراً لكون المشتركين كانوا على علمٍ مسبقٍ بخضوعهم للمراقبة، فإن وعيهم الذاتي أثر على خياراتهم. انطلاقاً من فكرة أن الفضاء الشخصي يستمر في منطقة الوعي، لجأ العديد من العلماء إلى اختباراتٍ أكثر سرية: ففي إحدى الدراسات اقترب الباحث من أشخاصٍ عشوائيين في بيئةٍ عامة في انتظار معرفة ما إذا كانت "الضحية" ستهرب، وفي دراسةٍ أخرى غريبة بعض الشيء تمت مراقبة الرجال سراً في المرحاض، وكانت الفكرة أنه مع زيادة قلق الرجل، فإنه يستغرق وقتاً أطول للبدء في التبول، كما أن وقت التبول يعتمد على ما إذا كان الرجال الآخرون يقفون في مكانٍ قريبٍ أو بعيد من الشخص المعني. ولكن كيف يؤثر القلق على المساحة الشخصية؟ اكتشف العلماء أن حجم الفضاء الشخصي يتّسع عند الشعور بالقلق، فإذا كنتم تسجلون درجاتٍ عاليةٍ من الإجهاد أو إذا كان الباحث يمارس نوعاً من الضغط عليكم، فمن المرجح أن تقوموا بالاختبار وفي حال قيل لكم إنكم فشلتم فإن مساحتكم الشخصية ستتسع تجاه الأشخاص الآخرين، أما في حال كنتم تشعرون بالراحة فإن مساحتكم الشخصية ستنكمش. via GIPHY واللافت أن عدة دراسات أظهرت أن النساء يمتلكن مساحة شخصية واسعة حين يقترب منهنّ الرجال، في حين أن الأشخاص الذين هم في مركز سلطة أو الذين يتبوأون مناصب رفيعة، فإن مساحتهم الشخصية تكون ضيقة خاصة تجاه بعضهم البعض. ماذا عن دور الخلايا العصبية؟ في التسعينات، حقق علماء الأعصاب تقدماً ملحوظاً في حلّ لغز "الفضاء الشخصي"، مع اكتشاف شبكةٍ من الخلايا العصبية في الدماغ التي تتعقب الأجسام القريبة وتطلق ردود أفعالٍ تراوح بين الدفاع والإنسحاب. وفي السنوات العشر الماضية، تم ربط هذه الشبكات الموجودة في القشرة الدماغية البشرية بالسلوك الاجتماعي، لكونها تنسق الرقصة "اللاشعورية" و"الخفية" للمساحة الشخصية مع قيامها باحتساب هامش السلامة وإملاء علينا حركاتنا وردود أفعالنا تجاه الآخرين، مع العلم أن هذه الآلية كلها تعمل بسلاسةٍ مطلقةٍ وبطريقة لا نلاحظها في العادة.بين الفضاء الإلكتروني والفضاء الشخصي
لاحظ "مايكل غرازيانو" الذي قضى عقوداً في دراسة "المساحة الشخصية" أن هناك تغييراً جذرياً حديثاً طرأ على الفضاء الشخصي. فمع "هجرة" الحياة الاجتماعية عبر الإنترنت، أصبح الفضاء المادي حول جسم الإنسان أقل أهمية، لأن بعض التطبيقات مثل فيسبوك وتويتر وغيرهما تزيل الإطار المكاني المباشر:" نتفاعل ككائنات لا أساس لها... فالعديد من الأشخاص يقضون الآن جزءاً ملموساً من اليوم في الفضاء الإلكتروني دون أن يحدث أي تفاعل حقيقي وجهاً لوجه"، وبالتالي تتم إعادة هيكلة الرقص الاجتماعي الإنساني على مستوى أساسي. في البداية اعتقد "غرازيانو" أن هذا التطور قد يكون كارثياً لكونه بإمكاننا أن نفقد القدرة على الاتصال على مستوى غريزي أعمق لا سيما مع ظاهرة "التهديد السيبراني" وهو السلوك الاجتماعي الذي ينطوي على جميع أنواع البلطجة التي تحدث على شبكة الإنترنت والتي غذت عالماً مليئاً بالتسلط والمطادرة والتنمر... إلا أن هناك جانباً مضيئاً في عالمنا الاجتماعي الجديد الذي مكّن بعض الحملات التي تحمل قضايا إنسانية هامة مثل #Me Too من الخروج إلى العلن:" إحدى السبل الطويلة للتمييز على أساس الجنس هو استغلال المساحة الشخصية للتنمر، على غرار قيام رجل بالتصرف وكأنه يمتلك المساحة الشخصية الخاصة بالمرأة، ويؤكد هيمنته عليها، وبما أن وسائل التواصل الاجتماعي أخذت مساحة شخصية من التفاعلات الإنسانية، فقد تعطي المرأة على الأقل مجالاً أكبر لكي يتم سماعها".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...