في صقيع بلد اللجوء تقيم بطلتا رواية "نغم حيدر" الأخيرة "أعياد الشتاء". غرفة ضيقة بالكاد تتسع لهما، لكنها تجمع متناقضات قد يعجز أي مكان عن استيعابها.
"شهيناز" و"راوية" صبيتان من سورية، وجدتا نفسيهما في غرفة واحدة بعد أن رحلتا عن بلدهما. وكان لا بدّ لعلاقة أن تنشأ بينهما... ونشأت على كذبة، لأن الحقيقة لا تقال دوماً.
خمس درجات تفصل بين سريريهما، لكن "فرق التوقيت بينهما كقارتين. الليل والنهار بينهما متفاوت. تستيقظ إحداهما لتنام الأخرى". لكن فرق التوقيت هذا ليس الاختلاف الوحيد، بل، ربما، هو الاختلاف الأسهل.
"شهيناز" فتاة جميلة، تخرج كل ليلة إلى الشوارع، تحب الغزلان المضيئة التي وُضعت احتفالاً بأعياد الشتاء. وترى أنها تشبهها. لديها صديق هو من كان يشغّلها، وهو من أنقذها في تلك الليلة التي كادت تموت فيها.
كل شيء يذكّرها بـ"قتيبة"، الضابط الذي كانت تتفنن في إمتاعه. الذي اخترعت التمثيليات وتقمصت الأدوار لإرضائه. الذي اكتشفت معه رغباتها السرية والعميقة. وعرفت مكامن اللذة في جسده فحلقت معه بعيداً.
ترسم "نغم حيدر" ببراعة شديدة شخصية الضابط "قتيبة"، تعود إلى طفولته وتخبرنا عن نشأته، عن زواجه وعن أطفاله. ورغم أنه رجلٌ قاسٍ وهو مسؤول عن اعتقالات وتحقيقات وتعذيبات، فإنها لا تشيطنه، بل تُظهر جانبه الإنساني وبخاصة في ما يخص علاقته بأطفاله، وهذا مما يحسب للرواية، إذ إن كثيراً من الروايات (السورية تحديداً التي تناولت السنوات الأخيرة) تحاول إظهار الجانب السيئ فحسب في الشخصيات التي تملك منها موقفاً مسبقاً، متناسين أن على الروائي أن يعبّر عن شخصياته بصدق حتى لو كان موقفه معاكساً لموقفها.
الجانب اللافت الآخر في "أعياد الشتاء" هو جرأة الكاتبة في الحديث عن جنسٍ، لا يمكن وصفه بالعادي، فهي تحكي عن "جنسٍ ساديّ"، واصفةً إياه دون مواربات، عارضةً أحاسيس الطرفين الشريكين في العملية الجنسية، ولعل من أبرز المشاهد براعةً في الرواية هو المشهد الذي تكون فيه "شهيناز" مستلقية لتضع وشماً على جسدها، وفيما الإبرة تخز جلدها وتؤلمه، تتذكر بالتفصيل آخر ليلة مع قتيبة. كل وخزة تحمل إليها صورة، وكل صوت يُرجع إليها صدى لما حدث.
"ضربها. رفع السوط بسرعة في الهواء ثم حطّ به على ظهرها. مرات عديدة وهو صامت. كأنه وضع ثقل يديه وعضلات جسمه جميعها في كل صفعة. (...) لم تستطع رفع رأسها لتراه. بقي خدها مستنداً إلى السرير. والآن فيما تدرز هذه الحسناء ظهرها، يمكنها أن تتوقع عمق انغراز الإبرة، ولون الحبر، ومساحة النقط. رغم الخدر هي قادرة على تخيّل الرسم وهو يُنقش. لكنها، في لحظة اتهام قتيبة لها صعقت تماماً. كما لو أن ذلك السؤال لغمٌ داست عليه فجأة".
أما "رواية"، الشخصية الثانية الرئيسية في الرواية، فلا تحب أحداً ولا يحبها أحد. بل إنها لا تحب جسدها، بمقاس صدرٍ لا يغري أحد.
لا تألف "راوية" الشوارع، وربما تخشاها أيضاً. في بلادها تركت أباً مفقوداً. ولكنها لا تنفك تشعر أنها "هي المفقودة منذ زمن. هي من تبحث عن نفسها ولا أحد آخر".
تكلم أمها "جيهان" باستمرار، وترسل لها النقود، وتلك تنفقها في البحث عن زوجها. كل ذنبه أنه في يوم من أيام المظاهرات "شق الباب" ليخبئ الشبان الهاربين. ثم أتوا واقتادوه إلى مكان مجهول، وهي لا تعرف عنه شيئاً. لكنهم أرسلوا يوماً يخبرونها أنه طلب "بيجاما". وهي تعلّقت بهذا الأمل. وصارت تزور المكاتب وتدفع الأموال كي تعرف أين هو.
رغم أن الابنة أخبرتها مراراً "الأب الذي رحل، قد رحل. وعليها أن تعلم أن البيجامات لن تصل إلى أصحابها، وأن المفقودين، أبداً لا يطلبون بيجامات".
في البلد القصي البعيد البارد، تفكر الفتاة لماذا تفعل أمها ما تفعله؟ لماذا لا تفقد الأمل؟ ثم يوماً ما، حين تعيش قصة إعجاب مع شاب في "الكامب" تدرك: "لا بدّ من أن جيهان تحبه كي تبحث عنه بهذا الشغف".
"شهيناز" و"راوية" لكلٍّ منهما حكايتها، وثمة علاقة حميمية ربطتهما، علاقة مبنية على كذبة، فلا الأولى أخبرت الثانية بحكايتها الحقيقية، ولا الأخرى فعلت. واحدةٌ أخفت قصتها، والثانية اخترعت واحدة مختلفة. ولا مشكلة في ذلك، طالما أنهما الآن في بلد جديد، لا أحد يعرفهما فيه، يمكنهما أن يصبحا إنسانتين جديدتين، بماضٍ متخيّلٍ أقل إيلاماً.
خاصة أن علاقتهما ستنتهي بانتهاء إجراءات الحصول على الإقامة، وعندئذ ستفترقان، وتفترق مسارات حياتيهما كما كانت مفترقة أصلاً. قد تتفقان على لقاء تجددان به حلمهما في حياة أخرى متخيّلة مختلفة عن حقيقة حياتيهما.
"متى نلتقي؟ يمكننا هذا دوماً. بعد شهر. أو شهرين. أو العديد من الأيام. وربما في ليلة احتفال آخر. نعم.. أراك. في إحدى أعياد الشتاء. في إحدى أعياد الشتاء".
في نهاية الرواية، قد نسأل أنفسنا: لماذا جمعت "نغم حيدر" هاتين الشخصيتين؟ أتكون مصادفة التقائهما في غرفة واحدة هي السبب فحسب؟ لكننا، سندرك ما لم تدركه واحدةٌ منهما.
اختلافهما الذي شعراه يخفي تحته شيئاً أكبر. كلتاهما كانت تقف في الجهة المعاكسة للأخرى، لا بما أعلناه، بل بما أخفياه تحديداً. "راوية" اختفى أبوها في مكان قد يكون من تحبه "شهيناز" وتتوق إليه مسؤولاً عنه.
مع ذلك، كلتاهما تحبان التبولة، وتأكلانها بمرح في تلك الغرفة الضيقة، بعيداً عن البلاد العنيفة. وهذا يكفي!
نغم حيدر: كاتبة وطبيبة أسنان سورية، مواليد دمشق 1987. حازت عام 2010 المركز الثاني في مسابقة وزارة الثقافة السورية للقصة القصيرة. بعد رواية "مرّة" التي أنجزتها ضمن محترف "كيف تكتب رواية" الذي تديره وتشرف عليه الرواية اللبنانية "نجوى بركات"، قدمت روايتها الثانية، "أعياد الشتاء" (عدد صفحاتها 144)، الناشر: دار نوفل - هاشيت أنطوان/ بيروت، والطبعة الأولى: 2018.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...