في 29 أغسطس 1966، جرى تنفيذ حكم الإعدام شنقاً بحق المفكر المصري الإسلامي سيد قطب، بعد إدانته بتهمة العمل على قلب نظام الحكم والشروع في تنفيذ عمليات تخريبية تهدف للمساس بالأمن العام في مصر.
مما لا شك فيه أن قطب يحتل موقعاً متميزاً في البناء الهرمي لجماعات الفكر السلفي الجهادي، إذ خرجت من تحت عباءة التفكير القطبي العديد من الجماعات الجهادية، مثل التكفير والهجرة، الجهاد، القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية.
وشاع النظر إلى قطب على أساس كونه الأب الروحي والمنظر الأول للفكر الإسلامي الثوري الداعي إلى حمل السلاح واللجوء إلى العنف كحل لتغيير الواقع القائم، من منطلق أفكاره التي تركّز على أن الحاكمية الله، وتكفّر المجتمعات الإسلامية التي لا تطبق الشريعة، وغير ذلك من الأفكار التي بُني عليها الفكر الجهادي.
ولكن مكانة سيّد قطب لا تقتصر على جماعات إسلامية سنّية، فله مكانة كبيرة لدى أهم تيارات الفكر السياسي الإسلامي الشيعي المعاصر، فقد كان المفكر الجهادي "السنّي" صاحب دور لا يمكن إنكاره في تكوين وتشكيل أفكار ومبادئ تيارات إسلامية شيعية عدّة اصطبغت بالصبغة الثورية.
نواب صفوي ومنظمة "فدائيان إسلام"
غير معروفة على وجه اليقين الظروف والملابسات التي رافقت اطّلاع سيد قطب على مبادئ وأدبيات الفكر الشيعي، إلا أنه من المرجح أنّه تعرّف على تلك المبادئ من خلال كتابات عباس محمود العقاد، وكتابات غيره من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، ممّن قرأ مؤلفاتهم في مرحلة دراسته الجامعية في كلية دار العلوم. ومع بدء سطوع نجم قطب أدبياً وفكرياً، حملت مقالاته وكتبه العديد من الإشارات العابرة التي يُفهم منها تعاطف صاحبها مع بعض الأفكار ذات الصبغة الشيعية الواضحة، ومن ذلك ما حمله كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام" الذي وجّه فيه انتقاداً لاذعاً لعدد من الشخصيات المهمة لدى السنّة، ومنهم عثمان بن عفان وأبو سفيان بن حرب وابنه معاوية وعمرو بن العاص. وقام قطب في الكتاب نفسه بكيل المديح للحركة القرمطية والإطراء عليها، وهي كانت واحدة من الحركات الشيعية الباطنية التي ثارت على الخلافة العباسية في القرن الرابع الهجري، ووصفها بأنها كانت حركة "معبّرة عن روح الإسلام التي تحارب الاستغلال والسلطة الجائرة وفوارق الطبقات". تلك الإشارات العابرة دفعت الباحث السوري محمد سيد رصاص، في كتابه "الإخوان المسلمون وإيران" إلى القول إنه "إذا حذفنا رأي سيد قطب في الخليفتين أبي بكر وعمر، وهو ما يخالفه به الشيعة، لكان رأيه مطابقاً لرأي الشيعة في عثمان وبني أمية، كما أن رأيه في علي بن أبي طالب يتطابق معهم أيضاً". اللقاء الأول بين قطب وأحد رموز الشيعة المعاصرين حدث عام 1953، عندما استقبل المفكر المصري رجل الدين الإيراني مجتبى نواب صفوي، زعيم منظمة مجتمع الإسلام، والتي عرفت باسم فدائيو الإسلام، أو "فدائيان إسلام" باللغة الفارسية. يذكر محمد سيد رصاص، أن الرجلين تلازما طوال فترة إقامة صفوي في مصر، وكان قطب الذي شغل وقتها مكانة بارزة في صفوف جماعة الإخوان المسلمين، هو المسؤول الأول على تهيئة وتنسيق الزيارة. ويؤكد رجل الدين الإيراني ومدير رابطة الحوار الديني في إيران حميد غريب رضا أن هناك أثراً كبيراً أحدثته تلك الزيارة في صفوف أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، "فقد كان نواب صفوي يمتلك شخصية رمزية وكاريزمية مؤثرة في العمل الثوري، وحركته كانت إرهاصاً مبكراً للثورة الإسلامية التي قادها الخميني في ما بعد". ويوضح رضا لرصيف22 نقطة في غاية الأهمية هي أن الحركات الإسلامية، سواء كانت سنية أم شيعية، في فترة أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، كانت قد استطاعت أن تتجاوز مستنقع الفتن والتناحرات الطائفية المذهبية، ما مكّنها من الاستفادة من تجاربها والوصول إلى نقاط فكرية مشتركة في ما بينها.محمد باقر الصدر وحزب الدعوة
ويذكر الباحث في المعهد الدولي للدراسات الإيرانية محمد الصياد لرصيف22 أن التأثير الأكبر لفكر سيد قطب في التيارات الشيعية المعاصرة تجلى في المفكر العراقي البارز محمد باقر الصدر، وفي حزب الدعوة الشيعي، الذي تشابهت العديد من أفكاره مع الأفكار التي خرجت من تحت عباءة قطب. ففي أواسط الخمسينيات من القرن العشرين، قام المفكر الشيعي البارز محمد باقر الصدر بتأسيس حزب الدعوة، واشترك معه في تأسيسه بعض من كبار الرموز الشيعية العراقية في ذلك الوقت. وبحسب ما يذكره القيادي الإخواني السابق ثروت الخرباوي، في كتابه "أئمة الشر: الإخوان والشيعة"، انعقد نوع من التحالف بين حزب الدعوة وبين الحزب الإسلامي العراقي السني الذي كان بمثابة الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في العراق، الأمر الذي أتاح الفرصة لانتقال الكثير من أفكار قادة ومنظري الإخوان في مصر إلى بلاد الرافدين تحت ستار هذا التحالف السياسي، وكانت مبادئ الفكر القطبي بطبيعة الحال قد استطاعت أن تجد لنفسها مكاناً لائقاً على الساحة العراقية حينذاك. أهم الأفكار القطبية التي تسرّبت إلى حزب الدعوة كانت التأكيد على ضرورة قيام الإسلام كنظام للحكم في إحدى الدول، لتكون بمثابة نقطة انطلاق بعد ذلك نحو تأسيس دولة إسلامية عالمية لا تحدها حدود ولا نطاق جغرافي معين، وكل ذلك تحت شعار الحاكمية المطلقة لله وحده، وهي الفكرة التي لطالما دعا إليها قطب في كتاباته. مكانة قطب عند قيادات حزب الدعوة ظهرت بشكل واضح أثناء فترة سجنه الأولى، وبالتحديد في عام 1964، وذلك عندما قام محمد باقر الصدر بمناشدة الرئيس العراقي عبد السلام عارف أن يتوسط عند الرئيس المصري جمال عبد الناصر للإفراج عن قطب، وهو الأمر الذي تحقق فعلياً في مايو 1964، حسبما يذكر صالح الورداني في كتابه "الشيعة في مصر". مساندة الصدر لقطب ظهرت مرة أخرى بعد إصدار حكم الإعدام على الأخير. يذكر أحمد عبد الله أبو زيد العاملي، في كتابه "محمد باقر الصدر: سيرة ومسيرة"، أن المفكر العراقي هرع إلى خاله مرتضى آل ياسين، رئيس جماعة علماء النجف، وأقنعه بإرسال برقية استنكارية للرئيس المصري للاعتراض على الحكم، وقام بكتابتها بنفسه، وكان مما ورد فيها: "لو لم يكن لهذا العالِم إلا تفسيره ‘في ظلال القرآن’، لكفى به خصيماً عند الله يوم القيامة". ورغم انسحاب الصدر من موقعه القيادي في حزب الدعوة عقب تأسيسه بوقت قصير، إلا أنه بقي متأثراً بأفكار قطب، وظهر ذلك جلياً في العديد من كتبه ومؤلفاته، ومنها على سبيل المثال كتاب "اقتصادنا" الذي تأثر فيه بكتاب قطب "العدالة الاجتماعية في الإسلام".الخميني وقطب والثورة الإسلامية
تختلف آراء الباحثين حول تأثير أفكار سيد قطب في الثورة الإسلامية في إيران بشكل عام، وفي نظريات روح الله الخميني السياسية على وجه الخصوص. قام الخميني، قائد وملهم الثورة الإيرانية، عام 1969، بنشر كتابه السياسي الأهم، المعنون بـ"الحكومة الإسلامية"، بعد ثلاثة أعوام كاملة من إعدام قطب، ما فتح الباب أمام العديد من دارسي فكر الرجلين للقول بإمكانية اطّلاع الخميني على كتابات المفكر المصري، وتأثير الأخير في بلورة فكر الأول السياسي وتوجيهه نحو إقامة دولة إسلامية دينية الطابع.مكانة سيّد قطب لا تقتصر على جماعات إسلامية سنّية، فله مكانة كبيرة لدى أهم تيارات الفكر السياسي الإسلامي الشيعي المعاصر، وكان صاحب دور في تكوين وتشكيل أفكار ومبادئ تيارات إسلامية شيعية عدّة
التأثير الأكبر لفكر سيد قطب في التيارات الإسلامية الشيعية المعاصرة تجلى في المفكر العراقي البارز محمد باقر الصدر، وفي حزب الدعوة الشيعي، لكن له تأثيرات أيضاً على كل من الخميني وخامنئي...يذكر الباحث محمد الصياد لرصيف22 أنه "من المحتمل أن يكون هناك إعجاب من جانب الخميني بشخصية وأفكار قطب أو تعاطف معه، ولكن الحديث عن تأثير مباشر قد يكون متعسفاً جداً، لأن البنية التحتية والهموم والظروف عند الرجلين، كانت مختلفة تمام الاختلاف". بدوره، يقول حميد غريب رضا: "شكّل الخميني فكرته عن الحكومة الإسلامية قبل أن يتعرّف على أفكار قطب، ولكن الحراك الثوري الذي أحدثته أفكار قطب في المجتمعات الإسلامية، وصلت أصداؤه إلى إيران، باعتبارها واحدة من الدول الإسلامية الكبرى، ولذلك لم يكن من الغريب أن يتقاطع الفكر القطبي مع نظريات الخميني إبان أحداث الثورة الإسلامية". في المقابل، هناك بعض الباحثين الذين ربطوا ثورية الخميني بأفكار قطب بشكل مباشر وواضح، ومن بين هؤلاء الباحث اللبناني ورئيس مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط الدكتور هيثم مزاحم، وذلك في بحثه المعنون بـ"الإمام الخميني بين الحاكمية وولاية الفقيه". يذكر مزاحم لرصيف22 أنه "لا يوجد مجال للتشكيك في كون كلام الخميني حول التوحيد ونفي الألوهية عن كل شيء ما عدا الله، ليس أمراً مقصوراً على الاعتقاد والعبادة فقط، وإنما تمتد آثاره إلى التبعية السياسية أيضاً، ومن هنا فإنه يتماشى بشكل صريح مع نظرية الحاكمية الإلهية لدى كل من أبي الأعلى المودودي وسيد قطب، اللذين كانا المنظرين الرئيسيين لها، ومعنى ذلك أن الخميني تأثر بأفكار الرجلين، وإنْ سار في ما بعد على خطى استحدثها هو بنفسه، تلك التي تمخضت في النهاية عن نظرية ولاية الفقيه". وظهر إعجاب الخميني بقطب في العديد من الصور والتجليات عقب انتصار الثورة الإسلامية عام 1979. على سبيل المثال، عقب حادثة اغتيال الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، عام 1981، على يد مجموعة من عناصر جماعة الجهاد التي اعتنقت أفكار قطب الداعية إلى الحاكمية وتكفير المجتمع وممارسة العنف ضد السلطة، عمّت فرحة غامرة الأراضي الإيرانية، ورُفعت صورة منفّذ العملية خالد الإسلامبولي في الميادين الرئيسة في إيران، كما أُطلق اسمه على أحد أكبر شوارع طهران، تخليداً له. بالإضافة إلى ذلك، كان في انتشار نسخ كتاب "في ظلال القرآن" في مختلف المدن والنواحي في إيران دليلاً دامغاً على أهمية قطب للثورة، الأمر الذي جرى الاعتراف به رسمياً من خلال إصدار الحكومة الإيرانية عام 1984 طابعاً بريدياً يظهر فيه وجه سيد قطب العابس خلف قضبان زنزانته قُبيل إعدامه.
علي خامنئي وسيد قطب
يُعتبر المرشد الأعلى الحالي للثورة الإيرانية علي خامنئي واحداً من أكثر القيادات الشيعية المعاصرة تأثراً بأفكار قطب. عام 1966، وأثناء اشتراكه في العمل الثوري بجوار أستاذه الخميني ضد النظام الشاهنشاهي، أخذ خامنئي قراراً بإنشاء مطبعة لنشر الكتب الثورية التي تشجع على إعادة النظر في الإسلام بوصفه تياراً ثورياً ضد الظلم والجبروت والطغيان. ومن هنا جاء قرار خامنئي بأن يترجم كتاب قطب المعنون بـ"المستقبل لهذا الدين"، والذي بث فيه مؤلفه أفكاره المناهضة للنزعة الإمبريالية الغربية عموماً، والأمريكية على وجه الخصوص، تلك التي رأى فيها نزعة مادية بعيدة عن المبادئ والقيم الأخلاقية. وتحت عنوان "بيان ضد الحضارة الغربية"، قام الشاب المعمم ذو الـ27 ربيعاً، بترجمة كتاب قطب، وأورد في مقدمته رأيه في الكتاب وصاحبه، فكتب: "هذا الكتاب، رغم صغر حجمه، خطوة رحبة فاعلة على هذا الطريق الرسالي. مؤلفه الكريم الكبير سعى في فصوله المبوبة تبويباً ابتكارياً، إلى أن يعطي أولاً صورة حقيقية عن الدين، وبعد أن بيّن أن الدين منهج حياة، وأن طقوسه لا تكون مجدية إلا إذا كانت معبّرة عن حقائقه، أثبت بأسلوب رائع ونظرة موضوعية أن العالم سيتجه نحو رسالتنا، وأن المستقبل لهذا الدين". كذلك، أشاد خامنئي في مقدمته بكتاب آخر لقطب هو "خصائص التصور الإسلامي"، وقال عنه: "أحد مؤلفاته القيمة والمبتكرة... ومترجم هذا الكتاب يعكف على ترجمته، وسيقدم قريباً إلى قراء الدراسات الإسلامية التحليلية". لم يقتصر إعجاب خامنئي على كتابي قطب المذكورين فحسب، بل نوّه في الوقت ذاته بباقي مؤلفاته، "فالكتب الأخرى للمؤلف المفكر المجاهد تشكل كل منها خطوة على طريق توضيح معالم الرسالة الإسلامية، وتفند مزاعم أولئك الذين يتهمون الإسلام بالبعد عن المنهج العلمي الصحيح وبأنه استنفد أغراضه". ويعلق حميد غريب رضا على مقدمة خامنئي لكتاب قطب، بتبيان الأهداف المشتركة للرجلين، ويقول لرصيف22: "التقى الرجلان على فكرة تطبيق الإسلام وإنقاذ المجتمع الإسلامي من الذل والهوان الحضاري أمام العلمانية والتبعية للغرب، في شعار الإسلام هو الحل، وهو الشعار الذي كان يمثل قاسماً مشتركاً بين التيارين". تأثُّر خامنئي بقطب لم يقف عند حدود النظرة المشتركة لعالمية الدين الإسلامي، ولكنه وضح كذلك في ترجمته لبعض الأجزاء من تفسيره "في ظلال القرآن"، والذي انتشر بشكل واسع في إيران. في عهد خامنئي كذلك، استطاعت أفكار قطب الجهادية حول الاصطفاء والتغرب عن المجتمع الكافر والحاكمية، أن تجد لنفسها هي الأخرى طريقاً للدخول إلى مناهج التدريس التي يتلقاها عناصر الحرس الثوري الإيراني. ولا تزال سيرة وآراء قطب حاضرة في إيران حتى اللحظة الراهنة، إذ اعتيد أن ينظم عدد من اللقاءات الفكرية والندوات العلمية التي تتطرق لأفكار الأب الروحي للسلفية الجهادية، منها مثلاً واحدة عُقدت في فبراير 2015، وحضرها عدد كبير من المفكرين الإيرانيين البارزين.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...