لا يكاد واحدٌ من الـ 2.3 مليون حاج، الزائرين مكة المكرمة هذا العام إلا ويحلم بالوصول إلى الحجر الأسود المستقر في الركن الأيمن للكعبة المشرفة لتسليمه وتقبيله، مهما كان المقابل الذي قد يكلفه لتحقيق مراده. يشكل الزحام الشديد حول الحجر الأسود علامةً فارقة في الطواف ولأجل ذلك، خصص أمن الحرمين الشريفين حارساً لحمايته من أية محاولة للعبث به، ولتنظيم عملية التدافع حوله. يتمُّ تغيير الحارس كل ساعة، بهدف الحفاظ على التركيز، ويقف في مكانٍ مرتفعٍ بجوار الحجر الأسود كي يقدرَ على مراقبة الطائفين، ومهمته الأولى هي مساعدة الضعفاء وكبار السن وأصحاب الاحتياجات الخاصة، للوصول إلى الحجر الأسود، ويرشد البقية إلى الطريقة الصحيحة لاستلام الحجر بعيداً عن البدع والخرافات، لكن الأهم هو حماية الحجر الأسود من العبث، أو محاولة الإضرار به.
ما هو الحجر الأسود؟
يقدس المسلمون الحجر الأسود اقتداءً بالرسول الكريم الذي كان يستلمه ويقبله ويأمر بذلك. يشدد الداعية سعيد السهمي أن تقديس الحجر وتقبيله، نابعٌ من حثِّ الرسول الكريم على ذلك، وأن هذا لا يصل لمرحلة التقديس المطلق، مستشهداً بقول عمر بن الخطاب "والله أني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أنني رأيت رسول الله يقبلك لما قبلتك" يضيف السهمي لرصيف22 "من المفاهيم المغلوطة لدى العامة، أن الحجر الأسود يشفي من الأمراض، أو أنه مقدس لذاته. مشرَّعٌ للطائف أن يقبِّل الحجر الأسود إن أمكن له ذلك، وإلا فإنّه يستلمه، أو يشير إليه على ما هو مبيّن في موضعه، والهدف من ذلك هو التأسي بالرسول الكريم، أما الحجر بذاته فإنّه لا يضرّ ولا ينفع، ولا يجوزُ التبرك به، ويصل هذا لدرجة الشرك بالله".الحجر الأسود كاسمه قطعٌ من الحجارة، سوداء اللون موزعةً في دائرةٍ مجوَّفة، ومحاطةً بإطار من الفضة الخالصة. وتذكر كتب التاريخ أن طول الحجر الأسود في القرن الرابع الهجري كان نحو ذراع، قرابة 70سم، ونقلاً عن المؤرخ محمد بن نافع الخزاعي، فالسواد كان في رأسه فقط أما باقيه فأبيضٌ، وهو يقع في الركن الشرقي الجنوبي من الكعبة، ويرتفع عن الأرض بنحو 1.5 متر. أما اليوم، فلم يبقَ من الحجر الأسود سوى ثماني قطعٍ صغيرة، بارزة وغيرها سبعٌ مغطاةٌ بالمعجون البني الذي يراه كل مستلم للحجر، وهو خليط من الشمع والمسك والعنبر. ولا تتجاوزُ أحجامُ الحجارة حجم التمرة الكبيرة، أما بقية الحجر الأسود فهي في داخل بناء الكعبة، وبحسب موقع الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين، مازال الجزء الداخلي من الحجر الأسود محتفظاً بلونه الأبيض. عام 1955 رسمَ الخطاط والمؤرخ محمد طاهر الكردي القطع الثماني البارزة من الحجر الأسود، واضعاً ورقةً خفيفة على الحجر نفسه، بعدها رسمه بالقلم من فوق الورقة قطعةً قطعة. وكان أول من أحاط الحجر بإطار الفضة عبد الله بن الزبير، ثم تابع الخلفاء والسلاطين ذلك من بعده، وكان آخر إطار وضع له، في عهد الملك سعود بن عبد العزيز عام 1963.
حقيقة أم أسطورة؟
يؤمن المسلمون أن الحجر الأسود هو أشرف حجرٍ على وجه الأرض، وهو بحسب أحاديث الرسول الكريم من أحجار الجنّة، وسيعود إليها في نهاية الزمان. يؤكد أستاذ الشريعة الدكتور عقل العقلي أن الأحاديث الواردة في تعظيم الحجر الأسود ثابتةٌ عن الرسول الكريم، ولا مجال للتشكيك فيها، قائلاً لرصيف22 "أوثقُ ما رُويَ في ذلك ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: نزل الحجر الأسود من الجنّة، وهو أشدّ بياضاً من اللبن، فسوّدته خطايا بني آدم". يتابع "أيضاً، روى ابن عباس عن الرسول قوله: والله ليبعثنّه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، ولسانٌ ينطق به، يشهد على من استلمه بحق". لافتاً إلى أن "هذه الأحاديثُ قطيعة الثبوت عن الرسول الكريم، ولهذا نحن كمسلمين نعظمه ونحترمه". يتفق حديث العقلي مع ما روى الأزرقي في تاريخ مكة أنه "ليس في الأرض من الجنّة إلا الرّكن الأسود والمقام، فإنّهما جوهرتان من جواهر الجنّة، ولولا ما مسّهما من أهل الشّرك ما مسّهما ذو عاهة إلا شفاه الله عزّ وجلّ".على طرف آخر، هناك من يشكك في الرواية الدينية، منهم الدكتور سيد القمني الذي يعتقد أن الحجر الأسود إما حجراً نيزكياً أو بركاني، ولا علاقة له بالجنة، قائلاً في كتابه (الحزب الهاشمي) "هذه الأحجار إما نيزكية أو بركانية، وسبب اسوداد لونها هو عوامل الاحتراق التي تعرضت لها، وسبب تقديس هذه الأحجار هو كونها آتيةً من عالم مجهول". في الاتجاه ذاته، كتب حسين عبد الحسين، الكاتب المتخصص في شؤون الخليج والشرق الأوسط، مقالاً في صحيفة الحرة، يربط فيه بين الحجر الأسود وبين الآله القديمة لدى الإغريق، ثم استخدامها لإثبات شرعية الحكام المسلمين "الحجر الأسود الذي يبدو أحجيةً منحدرةً من زمن عربِ قبل الإسلام، ليس من الأحجيةِ بشيءٍ بل يمكن كتابةُ تاريخه بالاستناد إلى عددٍ من المصادر المشرقية والرومانية السابقة للمسيحية والإسلام". ويضيف في مكان آخر "على الأرجح أن هذه الحجارة، وغيرها نيزكيةٌ سوداء كثيرة، كانت منتشرةً في عدد من المعابد منذ زمنٍ سحيقٍ كرمزٍ للإله الأول، قبل أن تتمَّ إعادةُ تعريف تاريخها، وتحويلها من رمزٍ لدين الإله صافون أو صوفيا الحجر الأساس للخليقة، إلى حجرٍ من الجنة، ولا سبب واضح للتبرك به، غير التقليدِ بلا تشكيك". "هراء خاوي" هكذا وصف الدكتور العقيلي كلام عبد الحسين، معتبراً أنه مجرد خواطر لا أساس له، مضيفاً "نؤمن أن الحجر الأسود أنزله جبريل عليه السلام على نبي الله إبراهيم عند بناء الكعبة، وفي رواياتٍ نزل على سيدنا آدم، لا أحد يقول أنه حجرٌ جديد، بل هو قديمٌ قدمَ التاريخ".
يقدس المسلمون الحجر الأسود اقتداءً بالرسول الكريم الذي كان يستلمه ويقبله ويأمر بذلك، ومن المفاهيم المغلوطة لدى العامة، أن الحجر الأسود يشفي من الأمراض، أو أنه مقدس لذاته.
بعد آخر سرقة لقطع الحجر الأسود أعاد القائمون على الكعبة القطعة المسروقة، بعد خلط مركبٍ كيماويّ مضافاً إليه المسك والعنبر لتثبيتها، ووضع الملك عبد العزيز بن سعود القطعة المكسورة بيده.
سرقة الحجر الأسود
رغم القدسية التي يحيطها المسلمون بالحجر الأسود، سجلت كتبُ التاريخ حادثةً مأساوية تمت على يد القرامطة عام 930 م، راح ضحيتها آلاف الحجاج، ووردت قصتها في العديد من المصادر التاريخية، أشهرها كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير الذي أسهب في روايتها. ملخصُ القصة أنه مع بداية ضعف الخلافة العباسية، بدأت حركة القرامطة التي تنتسب إلى حمدان بن الأشعث، الملقب بقرمط لقصر قامته، وهم من الشيعة الباطنية، تتقوى وتتوسع، وسيطرت على البحرين والشام والعراق، وعام 930 دخل أبو طاهر القرمطي، على رأس جيشٍ كبيرٍ مكةَ المكرمة وقتَ الحج، وقتل عدداً كبيراً ممن قادهم، وسرقَ الحجر الأسود، وعاد به إلى البحرين، الأحساء في ذلك الوقت، وبنى هناك كعبةً جديدة، زيَّنها بالحجر الأسود المسروق، وأمر الناس بالحج إليها.وجاء في كتاب (من حوادث الإسلام) لحازم خالد أن زعيم القرامطة أمر أن يُدفن القتلى في بئر زمزم ودفن كثيرٌ منهم في أماكنهم بالمسجد الحرام، وهدم قبة زمزم وأمرَ بقلعِ باب الكعبة ونزعِ كسوتها عنها وشقَّقها بين أصحابه، ثم أمرَ بعد ذلك بقلع الحجر الأسود، وهو يقول أين الطيرُ الأبابيل أين الحجارةُ من سجيل؟ ثم أخذوه إلى بلادهم. وذكر عبد الرحمن ابن الجوزي في كتابه (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)، أن "حادثة سرقة الحجر الأسود، قُتِلَ فيها زهاء ثلاثين ألفًا من غير الحجيج، وسلبِ كسوة الكعبة وجردِها، وأخذِ بابها، وحليتها وقبة زمزم، وجميع ما كان فيها من آثار الخلفاء التي زينوا بها الكعبة، وصعدَ على عتبة الكعبة يصيح: أنا بالله وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا". وأقام بمكة أحد عشر أو اثنا عشر يومًا، واقتلعَ الحجر الأسود من موضعه ، وأخذه إلى بلده هجر، تقع في الأحساء حالياً، وبقي الحجر في حوزة القرامطة قرابة 22 عاماً، وأعاده سنبر بن الحسن القرمطي، وأحضر معه جمعاً يشهدون، فوضعه سنبر وهو يقول "أخذناه بأمر وأعدناه بأمر". ومازال البناء الذي شيَّده القرامطة وأطلقوا عليه الكعبة، موجود في بلده هجر بالأحساء، لكن لم يتبق منه سوى أطلال غائرة غطتها الرمال. وزعم بعض المؤرخين، أن الخليفة العباسي افتدى الحجر الأسود بخمسين ألف دينار ذهبي.
أكثر من حادثة
لم تكن سرقة الحجر الأسود على يد القرامطة هي الحادثة الوحيدة التي حاول فيها معادون للإسلام النيل منه، ذكر ابن فهد المكي في كتابه (إتحاف الورى بأخبار أن القرى) أنه عام 363 هـ، وبينما الناس وقت القيلولة وشدة الحر قدم رجلٌ عليه غطى رأسه ببردة، وعندما دنا من الحجر أخذ معولاً، وضرب الركن ضربةً شديدة، وقبل أن يضرب الضربة الثانية طعنه رجل من أهل اليمن كان يطوف بالكعبة فأسقطه أرضاً، وعندما كشفوا عن المعتدي، وجدوا، أنه من الروم، جاء لهدم الحجر الأسود، فقام أهل مكة بحرقه عقابا له. حادثةٌ أخرى وقعت عام 414 هـ، وثقها كل من ابن الجوزي، والفاسي وابن كثير، كتب ابن كثير في (البداية والنهاية) "فيما كان في صلاة الجمعة، قام رجلٌ من أهل مصر، بإحدى يديه سيفٌ مسلول، وفي الأخرى دبوس، بعدما فرغ الإمام من الصلاة، فقصد الحجر الأسود، فضربه ثلاث ضربات بالدبوس، وهو يصيح "إلى متى يُعبد الحجر الأسود ومحمد وعلي؟ فليمنعني مانع من هذا، فإني أريد أن أهدمَ البيت. فخاف أكثر الحاضرين وتراجعوا عنه غير أن رجلاً نجح في ضربه بخنجر فقتله، وقطَّعه الناس وأحرقوه، وقتل ممن اتهم بمصاحبته جماعة وأحرقوا، وثارت الفتنة، وكان الظاهر من القتلى أكثر من عشرين رجلاً غير من اختفى منهم".أيضا ذكر المؤرخ حسين باسلامة في كتابه (تاريخ الكعبة المعظمة)، حادثة وقعت عام 1930 م، وفيها جاء رجل فارسي من بلاد الأفغان، فاقتلع قطعة من الحجر الأسود، وسرق قطعة من ستارة الكعبة وقطعة من فضة من مدرج الكعبة، لكن قبل أن يهرب شعر به حرس المسجد الحرام، فاعتقلوه ، ثم أعدم عقوبة له، وأعاد القائمون على الكعبة القطعة المسروقة، بعد خلط مركبٍ كيماويّ مضافاً إليه المسك والعنبر لتثبيتها، ووضع الملك عبد العزيز بن سعود القطعة المكسورة بيده، من أجل هذا تكثف إدارة الحرمين الرقابة على الحجر الأسود المقدس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...