لم يتوقف التاريخ عند «فرويد» واستخدامه لمصطلح "الهستيريا"، واعتباره شأنًا نسائيًا خالصًا، إذ امتدت مأسسة العنف ضد النساء باسم الطب والتأهيل النفسي حتى هذه اللحظة. و"الهستيريا" حسب التعريفات المتداولة هي الأعراض الجسدية الواضحة على النساء، والتي لم يتم تفسيرها عضويًا، وقد تنوعت مثل القلق والاكتئاب، والأرق، وحتى التقلبات المزاجية المصاحبة للدورة الشهرية.
لم يكن «فرويد» وحده الذي أشار إلى النساء بوصفهن حالات تستحق الاستهداف، سواء كان هذا الاستهداف باسم الدراسة والتحليل العلمي، أو حماية المجتمع من شرور أجسام النساء. ففي القرن السادس عشر تم إعدام ما يقرب من مئة ألف امرأة بتهمة ممارسة السحر، فيما يُعرف تاريخيًا بـ «صيد الساحرات». وقد تزامنت هذه الإعدامات مع النهضة العلمية وصعود الرأسمالية في أوروبا، والتي تطلبت القضاء على كافة أشكال الممارسات غير العلمية التي أُعتقد حينئذ بأنها تُهدد السلام الاجتماعي للمجتمع الأوروبي الناهض مؤخرًا. كانت النساء في هذا التوقيت يُجدن التعامل مع أجسامهن عن طريق الطبيعة، فاستخدموا وصفات طبيعية لمنع الحمل، وغيرها من الوسائل التي تم تصويرها في هذا التوقيت بأنها أعمال سحرية. أما الهدف من «صيد الساحرات» فتقول عنه النسوية «سيلفيا فيدريتشي» إنه كان بداية هيمنة الطب على أجسام النساء، وتنقيدها؛ أي جعلها مادة لإدرار الأموال والنقد عن طريق استبدال الطرق البدائية التي عرفتها النساء قديمًا بحكم علاقتهن الجسدية مع الطبيعة، بالطرق العلمية الحديثة. فمثلًا: بدلًا من استخدام عسل النحل لمنع الحمل، تم الترويج لوسائل منع الحمل الطبية، إلخ.
كان "فرويد" أول من أطلق اسم "الهستيريا" في مجال التحليل النفسي في نهاية القرن التاسع عشر، وبات المصطلح متداولًا لعقود من بعده. وظل الجسد النسائي شمّاعة علّق عليها الأطباء النفسيون فشلهم في التوصل إلى سر غموض هذا الجسد. في كتابها «الصدمة والتعافي»، تُشير «جوديث هيرمان» إلى هذا الغموض باعتباره لم يكن سوى أسطورة، اخترعها «فرويد» وأتباعه. وتُضيف أنه قد خدم كحائط صد بين الدراسات العلمية الموضوعية، وبين أجسام النساء. فكانت كل امرأة خارجة عن النمط الاجتماعي منبوذة ومحمّلة جزافًا بصفة «الهستيريا».
وتقول "هيرمان" إن هؤلاء لم ينفضوا عنهم غبار التمييز ضد النساء، واستخدموا الطب النفسي لإضافة بُعد مؤسسي وممنهج لهذا العنف، حتى أن "الهستيريا" ظلت وصمة اجتماعية للنساء، وتسببت في عدم التعامل معهن بجدية، خاصة في الاضطرابات النفسية التي تتنوع وتتشابه في أعراضها. الأمر الذي تطور فيما بعد ليصبح أكثر حدة، وأطلقت صفة «هستيرية» على أي امرأة لا تتفق مع النسق الاجتماعي من حولها.
"صيد الساحرات"، "الهستيريا"، بين مراكز الرعاية والتأهيل النفسي
هذا السياق التاريخي لاستهداف النساء بالعنف المجتمعي باسم التأهيل النفسي أو الرعاية النفسية يقول شيئًا عمّا تُعانيه النساء في مجتمعاتنا اليوم، وأخص بالذكر «مصر» و«السعودية». استخدم الرجال هذا العنف ضد النساء لفترات زمنية طويلة. فسمعنا عن إيداع النساء في دور الرعاية تحت مُسمى إعادة تأهيلهن نفسيًا، ولم يكُن ذلك سوى تصفية حسابات شخصية، كما يتبين من قصة الشابة المصرية «مها نصير». قبل عدة أيام تداولت منشورات على موقع فيسبوك من صديقات الشابة، يستغثن فيها بالرأي العام، ويسردن قصتها. تبدأ إحداهن كلامها بشهادة "اتزان نفسي" لـ«مها»، وبأنها حاصلة على درجة الماجستير في علم النفس. لكن بعد وفاة والدها، تعدّى عليها أخوها بدنيًا أثناء خروجها من العمل، ونقلها قسرًا إلى «المركز الطبي النفسي» التابع لـ«جامعة طنطا». تم احتجاز «مها نصير» في المركز بموافقة مديره الدكتور «السيد جاد» الذي يشغل منصب «رئيس قسم الطب النفسي بجامعة طنطا»، دون فحص طبي من قبل لجنة متخصصة. وتُشير الصديقة إلى تواطؤ مدير المركز مع الأخ لاحتجاز الشابة، حيث تتعرض لجلسات كهرباء مستمرة، تُهدد أمنها وسلامتها الجسدية والعقلية. أما السبب وراء هذا، فهو طمع الأخ في ميراث أخته.يتم احتجاز الفتيات في مراكز الرعاية النفسية وعلاج الإدمان، إما لتأديبهن أخلاقيًا، أو لأنهن مُلحدات أو مثليات الجنس
"مها نصير" و "هند خالد" هن أسماء يُمكننا من خلالها استنتاج كيف يتم انتهاك النساء باسم الطب النفسي
إيداع النساء في دور الرعاية تحت مُسمى إعادة تأهيلهن نفسيًا، ولم يكُن ذلك سوى تصفية حسابات شخصية، كما يتبين من قصة الشابة المصرية "مها نصير".في موضع آخر، يتم احتجاز الفتيات في مراكز الرعاية النفسية وعلاج الإدمان، إما لتأديبهن أخلاقيًا، أو لأنهن مُلحدات أو مثليات الجنس. تقول ق.ع إن أسرتها أودعتها مصحة للتأهيل النفسي وعلاج الإدمان في إحدى مُدن الدلتا، لأنها أفصحت عن معتقداتها الدينية. ويشيعون عنها أنها مُضطربة نفسيًا بين الأقارب والجيران لتجنب المُساءلة القانونية. ومثل هذه الاحتجازات تتم عن طريق "واسطة" داخل إدارة المصحات. أما عن المُساءلة المجتمعية، فيكون اعتماد الأسرة على أبوية المجتمع واعتبار الشابات ملكًا للأسرة التي يعرف أفرادها مصلحتهن جيدًا، هو سيد الموقف. هنا، يصبح الانتهاك مُباحًا باسم التربية.
دار الرعاية تتاجر جنسيًا بالبنات
ومن مصر إلى السعودية، انتشر هذا الوسم على موقع «تويتر» عن الانتهاكات التي تواجه الشابات في دور الرعاية بالسعودية. بدأت القصة بفيديو نشره أحدهم على «تويتر» لغرفة صغيرة تُشبه السجن، وعلى جدرانها كتابات تُفيد بأن هناك شابة تم احتجازها في الغرفة لسنوات، كما قال ناشر المقطع. زعم الناشر أنه ذهب ليستأجر منزلًا بحي «الروضة» في مدينة «الرياض»، حيث فوجئ بهذه الغرفة. لكن لم تَسِر الأمور كما أراد الناشر، إذ تم البحث في حساباته على مواقع التواصل واستنتج المستخدمون على «تويتر» أن هذا المنزل يخص الناشر بعدما تمت مطابقته مع صور قديمة من منزله. مما يطرح أنه متورط بشكل ما. استمر المستخدمون في البحث حتى عثروا على رقم جواله وتغريدة تعود لعام 2014 له يُعلن فيها عن مُكافأة 100 ألف ريال لمن يعثر أو يُدلي بمعلومات عن شابة مُتغيبة. وباستمرار البحث، تبين أنه لم يتم الإعلان عن تغيب الفتاة إلا عن طريق حسابه الشخصي، وحساب آخر يعلن عن هروب فتاة من دار للرعاية في مدينة «الرياض». أما رقم الهاتف المُدمج في الإعلانين، فقد تم البحث عنه بالاسم، ليُفاجأ الجميع بأنه مُسجل باسم «جرارة الرياض» وهو اسم متداول لسماسرة الجنس التجاري. أما عن الصورة المرفقة، فكانت مربوطة بحساب على موقع «فيسبوك» لشابة تُدعى «هند خالد». من خلال حسابات «هند خالد» على مواقع التواصل، تبين أن آخر تغريداتها كانت في عام 2014، وتطابق العبارات بينها وبين العبارات المكتوبة على جدران الغرفة، مما يُرجّح أن الفتاة التي سُجنت في الغرفة لسنوات، هي نفسها «هند خالد» التي يُقال إنها هربت من دار رعاية. أسئلة كثيرة يجب طرحها على السلطات السعودية التي لم تتحرك للكشف عن هذا اللغز وإعلان هوية الشابة المحتجزة، وما علاقة ناشر مقطع الفيديو بدار الرعاية، أو علاقة دار الرعاية نفسها بسمسرة الجنس التجاري. تباطؤ غريب، حيث أن السلطات لم تتوانَ لحظة في القبض على شابات بالسعودية بسبب فيديوهات لهن على الإنترنت، مثل الشابة «خلود اليافعي» التي نشرت فيديو تتجول فيه بتنورة قصيرة بالسعودية. فيما تُناقش النسويات السعوديات القضية من منظور آخر، حيث تُرجع احتجاز الشابات سواء في المنازل أو في دور الرعاية إلى نظام الولاية. ويُؤكدن أن أكثر الشابات عرضة إلى الانتهاك في دور الرعاية هن اللواتي تخلّت عنهن عوائلهن. وتطرقن إلى علاقة الشرطة بدور الرعاية، حيث يقوم الضباط بعرض الإفراج عن الشابات مقابل تقديم خدمات جنسية. في النهاية، «مها نصير» و«هند خالد» هما اسمان يُمكننا من خلالهما استنتاج كيف يتم انتهاك النساء باسم الطب النفسي إذ تكون حُجة قوية للعائلات لاحتجاز الشابات لأسباب مختلفة. وهما أيضًا مرآة لمئات من الشابات اللاتي لم نسمع منهن يومًا، ولم تصلنا قصصهن قط. والآن أطرح سؤالًا ولا أنتظر إجابة: "إلى متى سيظل اللجوء للرأي العام هو ملاذ النساء؟ ومتى سيتم تفعيل قوانين وتشريعات تمنع انتهاك النساء باسم التربية، وباسم التأهيل النفسي؟ متى سنتوقف كنساء عن ضخ قضايانا على مواقع التواصل للحصول على الدعم وحتى تتحرك السلطات لنجدتنا؟ ومتى سينصفنا القانون؟".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...