سعى الإنسان منذ ظهوره على الأرض إلى إيجاد طريقة ليتواصل بها مع أقرانه، وبمرور السنين وتطور الجينات اخترع اللغة التي لا يعرف أحد متى فعلاً تم اختراعها لتكون طريقة لهذا التواصل الذي بدأ منذ 200 ألف سنة تقريباً وفقاً لتقديرات العالم اللغوي الأمريكي دانيال إيفرت مؤلف كتاب "كيف بدأت اللغة؟".
وصل عدد لغات العالم من 200 ألف سنة حتى الآن إلى نحو 6500 لغة؛ أشهرها على الإطلاق لغة الماندرين الصينية التي يتحدث بها أكثر من مليار و200 مليون شخص، في حين توجد 11 لغة رسمية أخرى يتشارك فيها بقية سكان العالم، أما البقية فهي لغات محلية يتوقع البعض انتهاءها بنهاية القرن الحالي.
وعلى الرغم من هذا الكم الكبير من اللغات، اخترع الكثير من الناس في العصر الحالي لغات أخرى لا تمت لهذه اللغات بأي صلة لتكون طريقة للتواصل فيما بينهم دون أن يفهمها أحد، وهو ما يطلق عليه المصريون "السين"، أي اللغة السرية التي يخترعها أفراد لا يتعدون العشرات أو المئات على أقصى تقدير، ويتحدثون بها كي يقولوا ما لا يريدون أحداً أن يفهمه.
السغة لمبة
كشفَ عن أحد أنواع هذه اللغات المخترعة في مصر الممثلُ المصري أحمد مكي عندما قرر إطلاق صفحة رسمية له على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، حيث فشل في إنشاء صفحة باسمه الحقيقي ليختار اسماً مختلفاً للوصول إلى صفحته، وهو "سكي ملواني"، الأمر الذي جعل جمهوره يستغرب قبل أن يوضح لهم أن هذا الإسم هو جزء من لغة مخترعة أو "سين" انتشرت في منطقة الهرم بمحافظة الجيزة بعد أن اخترعتها مجموعة من البلطجية كي يتحدثوا فيما بينهم دون أن تفهمهم قوات الشرطة، ولهذا تعلمها مكي ورفاقه وأصبحت لغتهم السرية و"سينهم" الخاص. تعرف هذه اللغة باسم "السغة لمبة" وشرح أحمد مكي طريقة استخدامها باختصار وهي أن تستبدل الحرف الأول من الكلمة التي تريد أن تقولها على أن تلحق هذه الكلمة بكلمة أخرى حرفها الأول هو الحرف الأصلي المحذوف من الكلمة الأولى، فمعنى كلمة "سكي ملواني" الذي أنشأ مكي صفحته بها مقصود بها "مكي"، ولكنه حذف الميم واستبدله بحرف السين ووضع الميم في أول الكلمة الثانية التي ليس لها أي معنى أو ارتباط بالكلمة الأولى. /الخيش
محمد حسن عيسى، الباحث اللغوي المصري، كشف عن لغة أخرى و"سين" آخر ظهر بين الشباب، وخاصة في محافظة الإسكندرية، وتعرف هذه اللغة باسم "لغة الخيش". يقول عيسى لـ "رصيف22" إن هذه اللغة تختلف عن لغة "السغة لمبة" كونها تعتمد على مصطلحات معينة يستخدمها كثيراً أفراد العصابات مثل "دكاري خاتياك" ويقصد بهذه الكلمة "اعطني سيجارة"، وكلمة أخرى كـ "تومان يان" وتعني "اهربوا البوليس قادم"، "موردران" وتعني فتاة غير جميلة، "أتونا" وتعني فتاة فائقة الجماعة، مشيراً إلى هذه اللغة استخدمها بعض الشباب السكندري كـ"سين" بينهم حتى لا يفهمهم أحد وهم يتحدثون بها. يؤكد الباحث اللغوي أن هذه اللغة لم يعرف أحد متى تمت نشأتها تماماً إلا أن البعض قال إنها خاصة بـ "الغجر" الذين قد مروا بهذه المنطقة.مفردات الميم
وبما أن السين هي لغة اخترعها أشخاص بهدف عدم تمكين أي شخص غير مرغوب فيه من فهمها، فقد اخترع المثليون المصريون لغة خاصة بهم لا يعرفها غيرهم حتى لا يفهم أحد ما يقولونه ويتسبب لهم بمشاكل. كشف هذه اللغة وتفاصيلها مصطفى مكي، الصحفي بجريدة صوت الأمة، الذي أجرى تحقيقاً استقصائياً عن عالم المثليين في مصر وحياتهم الخاصة بعيداً عن بقية المجتمع الرافض للاعتراف بهم. يقول مكي لـ رصيف22 إن المثليين اخترعوا لغة خاصة بهم بعدما تسبب وضوحهم وحديثهم بصورة طبيعية وبلغة مفهومة في مشاكل كبرى لهم بسبب رفض المجتمع المصري لفكرة المثلية الجنسية، وهذه اللغة معظمها مستوحى من كلمات إنجليزية، وربما لا تعتبر بالأساس كلغة سين، ولكن كيفية استخدامها داخل المجتمع المصري جعل منها تتحول إلى لغة سرية لا وجود لها في القاموس اللغوي الاجتماعي العام. تعبر هذه اللغة عن ميول المثليين ورغباتهم الجنسية مثل كلمة "توب" وهي كلمة إنجليزية معناها "أعلى"، وتعبر عن المثلي الذي يرغب في ممارسة الإيلاج مع الطرف الآخر، وكلمة "بوتوم" ومعناها "أسفل" وتعني المثلي الذي يرغب في أن يتم ممارسة الإيلاج معه، وكلمة "همن" وتعني التوقف عن الكلام نظراً لوجود شخص غير مرغوب فيه يتابعهم، وهنالك ألفاظ أخرى كثيرة اكتشفها أثناء إجرائه التحقيق وسوف يتم عرضها بشكل كامل في كتاب له خلال أيام عن مجتمع الميم في مصر.الدراما واللغات المخترعة
الأفلام المصرية ناقشت هذه اللغات المخترعة والمعروفة باسم "السين"، كفيلم شنبو في المصيدة، بطولة فؤاد المهندس من إنتاج عام 1968، وتولى في هذا الفيلم "فؤاد المهندس" قيادة العصابة في إحدى المهمات المسماة بلغة سرية أيضاً وتعرف باسم "عملية العيش السخن"، وكان يوجه أفراد العصابة عبر اللاسلكي من خلال "سين" اخترعته العصابة كي تكون لغة في ما بينهم دون أن يفهمهما البوليس. ومن ضمن المصطلحات التي استخدمت في هذا الفيلم الكوميدي "الصلاطة على البلاطة" التي تعني الاستعداد، و"العبارة في الدوبارة" تعني ركوب كل أفراد العصابة السيارة والتحرك للمهمة، وغيرها من المصطلحات كـ "الإزازة في البزازة" التي تعني الهروب، و" الفيل في المنديل" التي تعني إيقاف السيارة، ومصطلحات أخرى لم يظهر معناها في الفيلم مثل "الولاعة في البلاعة" و"الجنزير على الخنزير". فيلم النمر والأنثى، إنتاج عام 1987، بطولة عادل إمام، ناقش هذه الظاهرة أيضاً، إذ ظل عادل إمام أياماً عدة كي يعرف الإشارة أو اللغة التي يستخدمها تجار المخدرات لتسليم البضاعة فيما بينهم بعيداً عن البوليس، وفي نهاية الفيلم اكتشف أن الإشارة صوتية عبارة عن صوت طبلة بطريقة معينة. "يوم ورا يوم حبيبي ما جالي نوم حبيبي" هو كوبليه من أغنية المطرب المصري هشام عباس، وكان هذا الكوبليه هو اللغة السرية أو "السين" الذي قاله الكوميديان المصري محمد هنيدي لعصابة أبو موتة في فيلم "فول الصين العظيم" من إنتاج عام 2004 لتسيلم وتسلم الفلوس والمخدرات بين العصابتين. وفي فيلم مافيا انتاج عام 2002 بطولة أحمد السقا، استخدم البطل لغة خاصة عندما كان يخاطب العصابة الدولية التي تهدف لإحداث بلبلة في مصر، وكان من ضمن مراسلاته لهذه العصابة قوله "الفرعون العاشق جاهز للاحتفال" وهي "سين" خاص بالعصابة معناه أنه مستعد لتنفيذ عملية الاغتيال التي يريدونه أن ينفذها. لم تكن العصابات المصرية وحدها هي من تخترع لغات خاصة كي تتحدث بها فيما بينها بل كان لمثل هذه اللغات استخدامات وطنية وتاريخية ككلمة "ديلسيبس" التي استخدمها الرئيس المصري جمال عبد الناصر في إحدى خطبه قبل قراره تأميم شركة قناة السويس، وكانت أشبه بـ "السين" بينه وبين رجال الشرطة والجيش ليتحركوا ويبدأوا في إجراءات تأمين القناة والقبض على رؤسائها الإنجليز. وقد نقل فيلم ناصر 56 من إنتاج عام 1996 بطولة الفنان المصري أحمد زكي، هذه الخطبة واستخدام لهذه الكلمة كإشارة لبدء خطوات تأميم القناة. استخدمت هذه اللغات المخترعة في الأعمال الجاسوسية وقد تم تجسيد هذا الاستخدام في فيلم "الصعود إلى الهاوية" بطولة الفنانة نادية الجندي التي زرعتها المخابرات المصرية داخل إسرائيل، وكان معها كلمة سر شهيرة لم ينسَها المصريون حتى الآن وهي "خالتي بتسلم عليك" إذ من يقول لها هذا المصطلح تعرف أنه يتبع المخابرات المصرية، فتخبره بالمعلومات التي معها أو تطلب منه أي شيء دون قلق.لغة مصرية جديدة
وبسبب هذه اللغات الكثيرة التي اخترعها المصريون كي تكون لغة خاصة لبعضهم لا يفهمها غيرهم، قام مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي التابع لمكتبة الإسكندرية بإصدار معجم لبعض المصطلحات التي أدخلت على لغة المصريين بسبب اختراعهم لها. يعرف هذا المعجم باسم "معجم لغة الحياة اليومية"، وهو من إنتاج عام 2007 وقام بكتابته ثلاثة من خبراء مركز توثيق التراث الحضاري، هم الدكتور محمد الجوهري، والدكتور إبراهيم عبد الحافظ، والدكتور مصطفى جاد ورصدوا 50 ألفاً من الكلمات والمصطلحات التي أدخلت على اللغة العربية بعد أن اخترعها المصريون حديثاً. ومن ضمن هذه الكلمات المصنفة تصنيفاً أبجدياً بدايةً من حرف الـ ألف حتى حرف الياء؛ كلمة "بعزء" وتعني أن الشخص صرف كل أمواله، "أفشخانات" وتعني أن ما يقوله الشخص غير حقيقي وكله خيال علمي، "بغزاله" وتعني أن الشخص متقلب المزاج، وغيرها من الكلمات. قال الدكتور محمد الجوهري إن معظم ما جاء في هذا الكتاب من اختراع فئة الشباب، مشدداً في مقدمة كتابه على أن الشباب يبحث دائماً عن وضع لمسته الخاصة في كل شيء حتى في اللغة، وهو ما كان سبباً في ظهور العديد من الألفاظ والمصطلحات اللغوية الجديدة التي لا وجود لها فعلياً في اللغة العربية، أو قد يكون معناها الصحيح في اللغة العربية لا يمت بأي صلة للمعنى الذي يقصده المصريون مثل كلمة بغزاله، فالمقصود ليس حيوان الغزال بل شخص متقلب المزاج، وغيرها من الأمثلة الأخرى الكثيرة، على حد تعبيره.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه