مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي اليوم، يمكننا أن نطلع على قصص وأخبار الأصدقاء بشكل مباشر ويومي، لذا قد يعصب علينا أنْ نتخيل كم كان مستحيلاً أن تصلنا قصص عن حياة الناس في القرون الماضية، حيث لم يكن هناك ما يوثقها ولا من يكتب عنها.
من هنا يأتي الاهتمام باكتشاف صفحة في مخطوطة قديمة، كتب فيها صاحبها ملاحظة بخط يده، استشف منها الخبراء قصّة صداقة ولدت في أرضروم العثمانية بين معلّم مسلم وطالبه المسيحي.
إلا أنّ القصة تتطلب أن نطلّ ولو باختصار، على الخريطة السياسية للعالمين الغربي والعثماني في القرن التاسع عشر، وبشكل أخصّ، تاريخ التبشير الأمريكي في الشرق.
كتب هوبريدج بخط يده مقطعاً قصيراً جاء فيه بأنه قد تلقّى تلك المخطوطة القديمة كهدية من عارف بك، الذي درّسه اللغة التركية في أرضروم.
في حين أنه من المستحيل التحقق من علاقات هوبريدج مع الأتراك والأرمن والعرب والإغريق، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود، خلال سنواته في الأناضول، مما لا شكّ فيه، أنّ المبشّر المسيحي تعامل مع مخطوطة القرآن التي تلقاها من معلمه المسلم باحترام وتقدير كبيرين.
تحت الخطوط العريضة لتاريخ التدخل الأمريكي في الشرق، القصة التي لا نعرف من تفاصيلها الكثير تحكي لنا عن علاقة إنسانية خاصة، ويمكن أن نستشف منها بأنّ المبشّر الأمريكي لم يكتف بالتبشير، بل تعلّم على يدي أستاذه اللغة التركية، والكثير عن الإسلام، حتى أنّ أستاذه قرر إهداءه القرآن الكريم.
ومن جهة أخرى، المخطوطة بحد ذاتها تذكير هامّ بأن المسلمين في الأناضول في منتصف القرن التاسع عشر، لم يتبعوا التعاليم المحافظة التي تسمح فقط للمسلمين في حالة الطهارة أن يلمسوا القرآن، سواء كان مكتوباً بخط اليد أو مطبوعاً.
والأهم من ذلك أنهم جاوبوا من جاءهم يبشّر بمعتقداته، برد مستمدّ من معتقداتهم هم، بل وقدّموا كهدية أغلى ما كان بين أيديهم.
ظهرت المقالة مرافقة لمعرض القرآن الالكتروني الذي أعدته الباحثة الدكتورة داغمار ريدل، ونشرته في الصفحة الرسمية لجامعة كولومبيا في نيويورك، حيث تمّ إعداد هذه الدراسة، تحت عنوان "A Muslim's Present for his Christian Student".
طموح الولايات المتحدة في المشرق
شهد القرن التاسع عشر في الشرق أحداثاً مصيرية، حيث بدأت هوية جديدة تتبلور بملامح نهضوية، أما في الولايات المتحدة، فقد اختلفت طبيعة القرن التاسع عشر إلى حدّ بعيد، كان أهمها الطموحات التوسعية شرقاً. في هذه الفترة، وبالتحديد، في العقد الأخير من القرن الثامن عشر، ظهرت في الولايات المتحدة الصحوة الكبرى الثانية كحركة إحياء قوية بين أعضاء العديد من الطوائف البروتستانتية الأمريكية. وفي عام 1810، قام الأبرشانيون (Congregationalists) والمشيخيون (Presbyterians)، الذين غالباً ما كانوا خريجي مدارس ومؤسسات تعليمية مرموقة في الشمال الشرقي الأمريكي، بتأسيس مجلس المفوضيين الأميركيين غير المذهبيين للبعثات الأجنبية (ABCFM) في بوسطن، فكان من أوائل المنظمات التبشيرية المسيحية الأمريكية. بعد حرب عام 1812، بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى ومستعمراتها في أمريكا الشمالية، دخلت الولايات المتحدة مرحلة جديدة من التوسع والغزو عبر القارة، نحو المحيط الهادئ. وتزامن ذلك مع قيام ABCFM بإرسال مبشرين إلى جميع أنحاء العالم. في عام 1820، عندما وصل المبشرون الأمريكيون الأوائل إلى بلاد الشام، اكتشفوا بأنهم جاؤوا "متأخرين" إلى الأرض المقدسة. فارتباط أوروبا بالشرق الأوسط عبر البحر المتوسط والبحر الأسود يعود لقرون طويلة سبقت مجيئهم. ولأن روسيا والإمبراطورية العثمانية اتصلتا عبر حدودها مع إمبراطورية هابسبورغ في الغرب ومع قاجاريي إيران في الشرق، فإن الناس والأفكار والسلع كانت تتحرك بحرية نسبياً على طول طرق عمرها قرون طويلة خدمت التعليم والتجارة والحج عبر أوربا وآسيا. وبعبارة أخرى، كان يمكن للأوروبيين السفر على نطاق واسع في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وأبناء الطائفة الكاثوليكية، مثل الكبوشيين والدومينيكان، حافظوا على مكانة دائمة في العديد من المجتمعات الإسلامية. كانت الإسكندرية وبيروت وحلب وإزمير وإسطنبول مراكز حضرية عالمية للإمبراطورية العثمانية. لكن سكان الأناضول والشام كانوا متنوعين دينياً وعرقياًَ، لأن الإمبراطورية العثمانية منحت المجتمعات غير المسلمة الاستقلال في مسائل الدين والأحوال الشخصية، طالما أنهم كانوا رعايا فيها، يدفعون الضرائب ويقدمون ولائهم للسلطان العثماني.قصة من القرن الـ19 عن معلّم مسلمّ قدّم القرآن كهدية لطالبه الأمريكي الذي عاش في الأناضول كمبشّر مسيحي
كانت كلّ من الإسكندرية وبيروت وحلب وإزمير وإسطنبول مراكز حضرية عالمية للإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر
من تبشير المسلمين واليهود إلى استهداف الكنائس الشرقية والأقليات المسلمة
كان الهدف الأساسي لـABCFM إنشاء بعثة في القدس، مركز المسيحية، لتبشير اليهود والمسلمين. ولكن ما كان لهذه الخطة أن تتحقق. بعد الاحتلال الفرنسي لمصر من قبل نابليون بونابرت بين عامي 1798 و1802، استلم محمد علي (1769-1849) السلطة في مصر. وبينما كانت النخب العثمانية تشرع في إصلاحات لتحويل إمبراطوريتها إلى دولة حديثة، كان الصربيون واليونانيون يقاتلون في البلقان من أجل استقلالهم. وعلاوة على ذلك، فإن صعود محمد علي إلى السلطة لم يشكل تحدياً للحكم العثماني في مصر فحسب، بل أضعف أيضاً الإدارة العثمانية في الأقاليم العربية المجاورة وأعطى بريطانيا وفرنسا فرصة أكبر لتوسيع نفوذها الثقافي والاقتصادي في المشرق. تجاوباً مع عدم الاستقرار السياسي في المنطقة، غيرت ABCFM نهجها. وهكذا، مع حلول عام 1834، أنشأ البروتستانت الأمريكيون صحافة في بيروت، وبدأ المبشرون بالتركيز على المجتمعات المهمشة خارج المراكز الحضرية، وعلى وجه الخصوص، بدؤوا يتواصلون مع أعضاء الكنائس الشرقية والأقليات المسلمة.تيلمان س. هوبريدج المبشّر الأمريكي في الإمبراطورية العثمانية
في هذه الظروف السياسية، تأتي قصة تيلمان س. هوبريدج، أحد البروتستانت الأمريكيين في الإمبراطورية العثمانية، حيث كان يعمل في منتصف القرن التاسع عشر كمبشر للأرمن في أرضروم في الأناضول، كما أفادت الباحثة داغمار ريدل. لا نعرف الكثير عن حياته، إلا بعض التفاصيل الهامّة التي كتبت في في يونيو 1868 في اسطنبول، في مخطوطة قرآنية اقتناها اتحاد مدرسة اللاهوت من ابن أخ هوبريدج في مايو/أيّار عام 1883.جاء إلى الشرق من الولايات المتحدة، يبشر بالمسيحية البروتستانية، فتعلّم اللغة التركية والكثير عن دين الإسلام وكتابه المقدّس
كتب هوبريدج بخط يده مقطعاً قصيراً جاء فيه بأنه قد تلقّى تلك المخطوطة القديمة كهدية من عارف بك، الذي درّسه اللغة التركية في أرضروم.
في حين أنه من المستحيل التحقق من علاقات هوبريدج مع الأتراك والأرمن والعرب والإغريق، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود، خلال سنواته في الأناضول، مما لا شكّ فيه، أنّ المبشّر المسيحي تعامل مع مخطوطة القرآن التي تلقاها من معلمه المسلم باحترام وتقدير كبيرين.
تحت الخطوط العريضة لتاريخ التدخل الأمريكي في الشرق، القصة التي لا نعرف من تفاصيلها الكثير تحكي لنا عن علاقة إنسانية خاصة، ويمكن أن نستشف منها بأنّ المبشّر الأمريكي لم يكتف بالتبشير، بل تعلّم على يدي أستاذه اللغة التركية، والكثير عن الإسلام، حتى أنّ أستاذه قرر إهداءه القرآن الكريم.
ومن جهة أخرى، المخطوطة بحد ذاتها تذكير هامّ بأن المسلمين في الأناضول في منتصف القرن التاسع عشر، لم يتبعوا التعاليم المحافظة التي تسمح فقط للمسلمين في حالة الطهارة أن يلمسوا القرآن، سواء كان مكتوباً بخط اليد أو مطبوعاً.
والأهم من ذلك أنهم جاوبوا من جاءهم يبشّر بمعتقداته، برد مستمدّ من معتقداتهم هم، بل وقدّموا كهدية أغلى ما كان بين أيديهم.
ظهرت المقالة مرافقة لمعرض القرآن الالكتروني الذي أعدته الباحثة الدكتورة داغمار ريدل، ونشرته في الصفحة الرسمية لجامعة كولومبيا في نيويورك، حيث تمّ إعداد هذه الدراسة، تحت عنوان "A Muslim's Present for his Christian Student". رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...