في الوقت الذي قررت فيه الحكومة المصرية زيادة أسعار السجائر أواخر يوليو الماضي، تماشيًا مع الارتفاع الذي تشهده السوق من حين إلى آخر، كان المواطنون المدخنون يتداولون فيديو كليب "نفسي في عقب" للمطرب والإعلامي الساخر سيد أبو حفيظة، يواسون به أنفسهم.
تقول الأغنية: "نفسي في عقب –والعقب هو مؤخرة السيجارة-.. ده أنا مش لاقي أجيبيلي سيجارة ولو كانت فرط.. نفسين بس.. حتى ولو من عقب اتطفي واترمي عالأرض".
وتعرف الأغنية الشعبية بأنها متنفس عاطفي في كثير من الحالات النفسية التي يمر بها الشعب أو الفرد على السواء، مثل التعبير عن الفرحة، أو الحث على القتال والحماسة، أو استنهاض الهمم لإنجاز عمل ما، أو للتسلية والترفيه وغير ذلك.
يكمل أبو حفيظة أغنيته –(المستوحاة من أغنية لمطرب شهير مع استبدال كلماتها بأخرى تناسب الموقف الذي هو بصدده): تبدأ تشحت يمكن مدحت يبدأ يعزم تبدأ تشتم لما تحس إن اللي بتشحت منه مبيدخنش.. "أقوى عذاب" لما يكون قدامك علبة قبل ما تغلي ومتجبهاش...
وهكذا إلى آخر الأغنية.
الإعلامي أكرم حسني، أو كما يعرفه الجمهور بـ "سيد أبو حفيظة"، مقدم برنامج "أسعد الله مساءكم من جديد"، يهوى هذه النوعية من الأغاني، فحينما تزيد الحكومة سعر سلعة أو خدمة ما ينتظر الجمهور إطلالته. وهذه بالطبع ليست أغنيته الأولى، فله أخرى تحمل عنوان "الأسعار نار" استعان بكلماتها من "حبك نار" للعندليب "عبدالحليم حافظ".
في ما يلي مقطع منها: "نار، نار، الأسعار كلها نار لحمة خضار بنزين وسولار، خفو بقي الأسعار، نار على جيبي، أسعار نار ليه بتغليها ليه تخليها تقطم وسطي وأروح أنا فيها، فتش جيبي شوف محفظتي ده انا من حوستي حاشيها ورق".
سيد درويش غنى عن الأسعار
لكن هذه النوعية من الأغاني التي تعلن رفضها لقرارات حكومية ليست وليدة اليوم، وبالطبع "أبو حفيظة" ليس رائدًا لها، فأحد أشهر مطربي مصر في القرن العشرين، "سيد درويش" عالج في أغانيه الغلاء والسوق السوداء، وله أغنية شهيرة عن ذلك تحمل اسم "استعجبوا يا أفندية... ليتر الكاز بروبية". ويقول مقطع منها: "استعجبوا يا فندية لتر الجاز بروبية.. ما بقاله اليوم شنة ورنة واللي بيبيعه له كلمة.. ياما ناموا كتير ناس في الضلمة وصبح أغلى من الكولونيه.. وتمن اللتر بحق صفيحة واللي بيبيعه بفضيحة.. مأمور القسم بقى نصيحة ماشية قدامه دورية.. مين كان فاكر إن دا يجرى حتى الكبريت بقاله ذكرى.. وقزازة اللمبة خدت شهرة بفرنك ونص وشوية".الأغنية الاجتماعية بمنظور نفسي
يعرف علماء النفس "الأغنية" ذات الطابع الاجتماعي كالتي تتحدث عن الأسعار والظروف المعيشية الصعبة لدى الناس، بأنها كلمات رمزية تعبر عما يجول بداخل الشعوب" وتطرح السؤال "لماذا"؟ أي سبب كامن وراء ارتفاع الأسعار؟ لكن الإجابة تكون عادة عند المسؤولين. بحسب ما قال الدكتور جمال فرويز، أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة. قال فرويز لـ"رصيف 22" إن الدافع الذي يجعل المطرب يتجه لهذا النوعية من الأغاني هو وطني بغرض توصيل رسالة حيادية وصادقة للناس، تهدف إلى ملامسة مشاعرهم والتخفيف عن آلامهم ومعايشة ظروفهم والتنفيس عنها.يعرف علماء النفس "الأغنية" ذات الطابع الاجتماعي كالتي تتحدث عن الأسعار والظروف المعيشية الصعبة لدى الناس، بأنها كلمات رمزية تعبر عما يجول بداخل الشعوب" وتطرح السؤال "لماذا"؟
الدافع الذي يجعل المطرب يتجه لهذا النوعية من الأغاني هو وطني بغرض توصيل رسالة حيادية وصادقة للناس، تهدف إلى ملامسة مشاعرهم والتخفيف عن آلامهم ومعايشة ظروفهم والتنفيس عنها.وهنالك دافع آخر، حسب "فرويز"، هو غير شرعي ويهدف لمعارضة السلطة وتحريض المواطنين ضد الحكام. وأضاف أن "الأغنية" رسالة تعبر عن المواطن وإن لم تؤدِ هذه الرسالة دورها فلا قيمة لها، ضاربًا مثلًا المطرب "سيد درويش" الذي ساهم في صناعة تاريخ الأغنية السياسية التي وقفت ضد الاحتلال الإنجليزي، وما زالت ترددها الأجيال الحالية، منها أغنية بلادي بلادي، التي تحولت إلى نشيد وطني. وأوضح أستاذ التحليل النفسي أن أشهر مطربي مصر على مر العصور، مثل عبد الحليم وأم كلثوم وعبد الوهاب، كانوا يعبرون عما يجول بخواطر المواطنين، كل حسب طريقته، لكنهم كانوا على توافق مع الأنظمة الحاكمة إذ لم تكن هناك معارضة وقتذاك. ويؤكد أن الأغنية تتغير حسب الثقافة السائدة في المجتمع، فقبل 1967 كنا نسمع قصائد شعبية من عبد الحيلم وأم كلثوم وبعد النكسة أصبحت الأغاني هابطة من نوعية "ماخدشي العجوز أنا – والطشت قلي".
أحمد سعد يعترض بطريقته على رفع سعر الغاز
وحينما قررت الحكومة رفع أسعار الوقود 60%، في 16 يونيو 2018، للمرة الثالثة في أقل من عامين، عبّر المطرب المصري أحمد سعد عن احتجاجه بأغنية جديدة أرفقها بهذا التعليق: "رد فعلي على ضريبة البنزين الجديدة". وجاءت كلماتها مستنكرة الغلاء، ومطالبةً بفرض ضرائب أخرى على النظر والحركة والسعادة. اعمل ضريبة ع الكلام ع الابتسام وعلى السلام اعمل ضريبة على اللي ميت من المرض لأنه مش لاقي الدوا واعمل ضريبة على اللي ماشي وهو ساكت ما هو ماشي يتنفس هوا وافرض ضريبة على السعادة سميها تمن الانبساط وخد إتاوة من اللي نايمين ع البلاط واعمل ضريبة على النجوم عشان بتطلع في السما واعمل ضريبة على العيون ما هي برضه أحسن من العمى.المطرب يتأثر بحياة من حوله
المطرب عبدالهادي أمين، صاحب أغنية "معاشات" التي تحدث فيها وعدد من الفنانين الصاعدين، عن زيادة الأسعار والغلاء، قال إن لكل فنان رسالة يؤديها في مجتمعه، وإن ما دفعه لتقديم هذه النوعية من الأغاني هو تأثره بحياة من حوله. فبحسب رأيه: "مفيش وظائف والشباب مش لاقية تتجوز"، وهذا يدفعك للتفكير في نقل هذه المعاناة للمسؤولين بطريقة سلسلة من خلال الأغاني. من أغنية "معاشات"، هذا المقطع: والدواء مبقاش في الأجزخانات.. والصوت من ضعفه بينه سكات.. وفي طبور العيش وقفين معشات.. والناس من غلبها حياتها أقساط .. من كتر الزحمة بنتعارك على الميكروباصات.. ونفرح لما يجي يجي العيد.. ونزعل لما أجرة تزيد.. ونخاف يوم لنتكلم نروح في حديد".. إلى آخر الأغنية... وعن الرسالة التي أراد توصيلها بأغنيته هذه، يقول المطرب أمين لـ"رصيف 22" إن هذه الأغاني تمس فئة عريضة من الناس، وتساعد على التنفيس عن المواطنين إذ تشعرهم بأن هناك من يهتم بهم ويعيش معاناتهم، بخلاف الأغاني الرومانسية والعاطفية. ويبيّن أمين أن مطربين كثرًا تفاعلوا مع مجتمعاتهم بطريقتهم الخاصة فعبدالحليم مثلًا كان يهتم بالأغاني الوطنية مثل "خلي السلاح صاحي" بعد نكسة 1967 وفيها يحفز الجنود والضباط ويشحذ هممهم ضد العدو، وأغنية "ابنك يقولك يا بطل" بعد انتصار مصر في حب أكتوبر 1973، وأغنية "حكاية شعب" للاحتفال ببناء السد العالي. &t=1sطريقة للوصول لقلوب المواطنين
قد تكون الأغاني الاجتماعية مثل الأسعار وغيرها طريقة الفنان للوصول سريعًا لقلوب المواطنين وبداية جيدة لشهرته بحسب ما يقول المطرب عبدالهادي. فمطربون كثر بدأوا مسيرتهم الفنية بلمسة شعبية. المطرب عصام جيجا تحدث هو أيضًا عن الأسعار تحت عنوان "الأسعار ولعة نار". من أغنيته هذا المقطع: "الناس يابا مش عارفة تعيش، مش لاقية رغيف العيش، الأسعار مولعة نار، لا أنابيب بوتاجاز شايفنها، والناس يابا طلعت عينها، مفيش حاجة فى السوق شايفينها لا قوطة ولا خيار". هكذا تناول جيجا مشكلة غلاء السلع الغذائية في الأسواق، بالإضافة إلى غياب أنابيب البوتاجاز، والخضر مثل الطماطم والخيار من السوق، والدجاج واللحم والسمك والجمبري والرنجة، وتحدث أيضًا عن أزمة الدولار وارتفاع سعره وتدهور الجنيه."المصريين بيقولو أحيه"
أما حين ارتفعت أسعار تذكرة المترو وبعض السلع الأخرى راجت أغنية (المصريين بيقولو أحيه). وأحيه ليست "شتيمة" بل هي لفظ اعتراضي ساخر يستخدمه المصريون للاعتراض بحسب ما أوضح ناشر المقطع على اليوتيوب. يقول طارق بدر، صاحب الأغنية الساخرة من غلاء سعر المواصلات التي وصلت لـ 10 جنيهات: "من الهم ما بعرفشي أنام منا عندي عيال وولية الأسعار بره غالية نار قربت ابيع اللي عليا.. ناس عايشه بتقبض بالدولار اوعدهم بنصيبة تكون كبيرة.. أي مواصلة بـ 10 جنية حتى الكشري.. ناس ليها البطة المحشية وناس ليها الطعمية".الأسعار عند الشعراء
لم تقتصر الأغاني على المطربين. فالشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى كتب قصيدة بعنوان "مرسال"، وجهها إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي، يعترض فيها على غلاء الأسعار ورفع الدعم عن المواطنين. وفي ما يلي نصها: الشعب عمره ما راح يعود للوهم والرجرجه في القول والأفعال المسالة غياب سلوك الحسم في حرب جبارة جهاد وقتال المسالة دعم أو مش دعم رايحين لفين اهو د هاهم سؤال انا مش مصدق مهما صدق العزم انك تشيل الميه في الغربال كله اخد على البلطجة والخم ومصر مرضانه مرضها عضال الشهر يسحب خلف منه شهر تقع المروءة مهما هتكون شهم يا ايها القبطان قانون البحر متخفش على الصاري وخاف على اللحم والشعب طاش لا نظر ولا سمع وفضيت الساحه من الحرافيش الدم متنكر في صورة دمع والكبد متمزع والقلب مفيش فاحذر لسان مسموم بقولنا وقال واخر النهار لا جدعنه ولا مال عيون ازاز اما قلوبهم شمع والروح حته شقف وضمير خيش ... ونشرت صفحة الإبداع الفني قصيدة عن ارتفاع الأسعار لشاعر مجهول الهوية، هنا نصّها: شوف إيه اللي هيحصل لو استمر رفع الاسعـــــــــــــار البلد حـــــــــــــالها هيتقلب والعيشه هتبقى مــــــــــرار والواحد ميعرفش يعيش غير لما يشتغل ليل ونــــــــــهار ولو زادت شوية الاسعـــــــــــــــــــــــــــــار وولعت نار الاب هيبيع ابنه ويشترى مكانه حــــــــــــــــــــــــــــمار لابياكل ولا بيصرف وكمان ممكن يسرح بيه بخضـــــار ولا بنته تنحرف عشان تجبيب فلوس وتجبله الـــــــــعار ده لما الاسعار تزيد مش هتلاقى حتى الخـــــــــــــيار حتى لو لقيته هتلاقى ســــــــــــــــــــــعره 10 دولار والناس عشان تاكل هتاكل ورق اشجــــــــــــــــــــــار ولما تيجى تشرب شاى هتحط مكان السكر صــــــــبار وساعتها بدل متشرب شاى هتشرب ميه نـــــــــــــــــار ده غير كده هتكتر عمليات القتل والانتحــــــــــــــار ...مجرد علو صوت وتنفيس عن المشاعر
وإسقاطًا على الوضع السياسي، يؤكد الناشط السياسي مجدي حمدان أن الأمر لن يخرج عن مجرد علو صوت ونبرات احتجاج، فالنظام الحالي يتعامل بكل خطوات القبضة الحديدية، ولن يسمح بتجاوزات، وينظر لتلك الاغاني كجزء من التنفيس عن المشاعر المشتعلة. ويقول لـ"رصيف 22" إن المستفيد من تلك الأغاني هو مؤديها إذ يجتذب من خلالها المزيد من الجمهور. ويختم: انها تمتص الغضب وتستوعب دعوات الخروج على الحاكم إن وجدت.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...