تتناوب فصول رواية "خرائط" بين ثلاثة ضمائر، إذ يسرد الراوي بدايةً القصة لـ"عسكر" مخاطباً إياه، ثم ينتقل السرد في الفصل الذي يليه إلى "عسكر" نفسه ليسرد هو ما فات مخاطبه من أشياء، ثم أخيراً يسرد راوٍ عليم بكل شيء قصة "عسكر" و"مسرا" لنا، وربما له، في محاولة لتدارك نواقص الفصلين السابقين، ولملمة بعثرتهما.
بعد ذلك يعاود الراوي الأول مسك دفة السرد من جديد ليسير به إلى الأمام، فيستمر التناوب السابق نفسه بين ضمائر "المخاطب" و"المتكلم" و"الغائب" إلى أن تنتهي الرواية بإكمال اثني عشر فصلاً بديعاً. هذه التقنية الجميلة لها ما يبررها في الرواية، لكن الكاتب لا يوضح الأسباب إلا في جمل النص الأخيرة.تحديد الهوية هو المحور الأساس والمركزي الذي يطرحه نور الدين فرح من خلال شخصيتيه الرئيستين، إذ ترعى "مسرا" الخادمة الأثيوبية "عسكر" بعد أن تجده في حجرة خلفية، قابعاً أمام أمه التي ماتت أثناء ولادته أو بعدها بساعات، وقد كان أبوه أيضاً مات قبل شهور قليلة في أحد السجون، على إثر اشتراكه في الحرب الدائرة بين الصومال وأثيوبيا على إقليم أوغدين الصومالي.
إذاً، مباشرة يخلق الروائي عقدة الرواية: نزاع بين أثيوبيا والصومال، وامرأة أثيوبية ترعى طفلاً صومالياً. "لقد قررت جموع الأقارب أن تكون مسرا، المرأة التي كانت خادمة يوماً ما، الأم البديلة لك. ينبغي قول شيء هنا، وهو أنك أنت من جعلت أولئك الأقرباء يوافقون على ذلك الخيار، أنت الذي لم تكد تبلغ أسبوعاً من عمرك".
يعيش "عسكر" حالة من الالتصاق النفسي والجسدي مع "مسرا" في مجمع "العم أوراكس"، حيث سيكبر ويرى كيف أن عمه "أوراكس"، الرجل المتسلط وصاحب النفوذ، يغيّر زوجاته باستمرار، ويتحرش بـ"مسرا" فيمارس الجنس معها مقابل تستره على هويتها الأثيوبية وهي التي تعيش بين الصوماليين. ويفعل "أوأدان"، الذي يدير مدرسة يتعلم فيها "عسكر"، الشيء نفسه أيضاً.
بطرحه لهذين النموذجين يسلط فرح الضوء على مدى الظلم الواقع على المرأة، في المجتمعات الأفريقية، ومدى النفاق والادعاء الذي يظهر في سلوك بعض الأفراد. "لم يكن سراً أنك لم تحب العم أوراكس وزوجاته اللاتي لا يحصين: لا يحصين لأنه طلق وتزوج عدداً كبيراً منهن. (...) كان عمك عديم الرحمة، ومن الطبيعي أنك كنت تخاف منه. غالباً ما كنت تتذكره وهو يضرب إحدى زوجاته أو أحد أبنائه".
ينتقل عسكر حين يكبر ليعيش في مقديشو مع خاله "هلال" وزوجته "سلادو"، وهناك بعد أن يتسلم بطاقة هويته التي تثبت جنسيته الصومالية، سوف تبدأ مرحلة جديدة من الصراعات النفسية لديه، صراعات تتعلق بمفاهيم الهوية والانتماء والقومية، ما يقوده إلى سلسلة لا نهائية من الأسئلة، خاصة أن من ربّته تنتمي إلى قومية أخرى، ولا يحق لها الحصول على الجنسية الصومالية، "جال في خاطري أنه من غير الإنصاف ألا تحظى مسرا ولو بمجرد ذكر في بطاقة هويتي".
ترسم الرواية صورة عامة عن الحروب والآثار التي تتركها في البلدان، وفي الناس، وما تجرّه من مآسٍ وويلات، وكيف تروَّج الشائعات وتُرَكَّب الاتهامات، وتزداد جرائم القتل والاغتصاب والعنف، بذريعة حماية الوطن، فيما الحقيقة المطلقة أن الحروب لا تجلب إلا الدمار والخراب للإنسان. هكذا ستصبح "مسرا" بسبب انتمائها العرقي إلى طرف العدو، متهمة بأنها سربت معلومات عن الجنود الصوماليين فكانت سبباً في هلاك أكثر من ستمئة صومالي، فيقع عسكر، بعد تصديقه لذلك، فريسة للشكوك التي تتناهبه، ويتوه في متاهة الولاءات والانتماءات.
"مسرا كانت الكون بالنسبة إلي. (...) والآن تفكك ذلك الكون واقترفت مسرا الخيانة. ماذا عليّ أن أفعل؟ أنا، أنا الذي ما زلت أحبها".
بذكاء من يعرف هدفه، وببراعة كاتب متمكن، يطرح فرح سؤال "الوطن الأم" و"ووطن الآباء"، وعن المنطق الذي يكمن وراء تلك التسميات، وعن معنى الوطن والأمة، والشعب، واللغة، وعن معنى تلك الخرائط التي تتغيّر حدود الدول فيها باستمرار تبعاً لنتائج الحروب، وهل حقاً أن انتماء الفرد يتحدد تبعاً لمكان ولادته؟ "المشكلة هي: من هم شعبي؟ قالت مسرا. بالنسبة إلي شعبي هو شعب عسكر، الشعب الذي تعلقت به للغاية".
نور الدين فرح روائي صومالي، من مواليد بيداو 1945. درس الأدب والفلسفة في الهند، ثم درّس في الصومال لسنوات عديدة قبل أن تُمنع رواياته، ويعلم بنية السلطات باعتقاله، فاختار المنفى، ليعيش متنقلاً بين أفريقيا وأوروبا وأمريكا. بدأ حياته الروائية عام 1965، عندما أصدر روايته الأولى "لماذا الموت بهذه السرعة". سرعان ما بدأت الأوساط الأدبية بالتنبّه له بعد إصداره روايته الثانية "من ضلع أعوج"، ثم توالت رواياته "الإبرة العارية"، ثلاثية "تنوعات في دكتاتورية إفريقية" التي تتألف من "حليب حلو ومر"، "السردين"، "اغلق يا سمسم"، ثم ثلاثية ثانية بعنوان "دماء في الشمس" التي تعتبر رواية "خرائط" الجزء الأول فيها، يليها "هدايا"، و"أسرار".
اكتسب فرح شهرة عالمية بعد فوزه بالعديد من الجوائز الأدبية في إيطاليا، السويد، ألمانيا، فرنسا، من ضمنها جائزة نوستادت Neustadt العالمية للأدب عام 1998، وهو أيضاً مرشح دائم لجائزة نوبل الآداب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم