لا يكتفي الواقع المصري بالمعاملة القاسية للحمار في الحياة اليومية، والتي تنحدر إلى أقصى الدرجات في أحيان كثيرة باعتباره حيوانًا لا يشعر وهو ما يخالف خصائصه ككائن حي!
بل يستدعي الحمار إلى العالم الافتراضي والمنتديات والجلسات ليكون مادة خصبة للتهكم والسخرية بأشكال مختلفة عند كل زيادة في أسعار المحروقات تقرها الحكومة المصرية، في حين يبقي الجمل ـ رغم كونه من الدواب المستخدمة للنقل والانتقال في الحياة المصرية، في مأمن عن حفلات السخرية الصاخبة والمبتذلة أحيانًا.
ينشط مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي في إعلان الاحتجاج على قرارات الحكومة ورفضها واتهامها ضمنيًا بالعودة إلى الوراء بنشر صور مختلفة ومتنوعة للحمار وتطورت أشكال السخرية تزامنًا مع الزيادة الأخيرة لأسعار الوقود حيث بث مواطنون مقاطع فيديو لهم وهم يلجأون للحمار كوسيلة مواصلات في القري والمدن كإسقاطه على عودة عصر إلى ركوب الدواب كوسيلة انتقال مرة أخرى. وتحمل تلك الإسقاطة اتهامًا ضمنيًا للحكومة بعدم إدراك الواقع المعيشي للمواطن العادي وعدم تحققها من أحواله، ويشارك الصحفيون أحيانًا في حفلة السخرية بنشر قصص وصور استخدامهم للحمير والعربات التي تجرها الحمير «الكارو».
ورغم تألف السكان مع ذلك الحيوان ونفعه في البيئة المصرية في الحضر والريف على حد سواء إلا أنه كان وما زال مستهجنًا لأسباب متنوعة، منها السمات الشكلية والصوت والاعتقاد الراسخ كونه كائنًا لا يشعر ولا يفهم وترسخه في العقلية الشعبية كمدلول للهجاء اسمًا وشكلًا، وربما ساهمت هذه الدلالات في أن يكون الحمار سببًا في مشاجرات وثأر في بلدان الصعيد في أحيان كثيرة، ففي سجلات وزارة الداخلية عدد كبير من الجرائم التي ترتكب بسبب ذلك الحيوان والتي تنحصر في الغالب في المشاجرات والمعارك، ومنها تعدي الحمار على زراعات الغير والمقصود هنا أن أحد طرفي المشاجرة يعتبر بحث ذلك الحيوان عن الغذاء نوعًا من التعدي عليه من مالكه على أملاك غيره، وهو ما يعيدنا فورًا إلى ذلك الاستهجان المترسخ لذلك الحيوان، ودرءًا للمعايرة أن حمارًا أكل من حقل مزارع تنشب المعارك بين الطرفين ويقع مصابون ـ ربما، لإزاحة هذه المكايدة المستقبلية في المجتمعات الضيقة.
وحتى في الحياة الجنسية يكون الحمار بطلًا للتهكم والسخرية في المجتمعات الريفية، يصف المتهكمون شخصًا ما بالحمار في علاقته الحميمة مع شريكته في إشارات ضمنية مفهومة إلى الفحولة والجنسانية المبالغ فيها، كما أن العقلية الشعبية التي تربط ختان الإناث بالعفة بالمجتمعات المغلقة هي نفسها التي تذهب في أحاديث أسطورية لا حوادث محققة، عن تكون علاقة شاذة بين غير المختتنات والحيوانات المنزلية، ومنها الحمار، كتنبيه وإحاطة إلى وجوب الختان للإناث ضمانًا للعفة وعلاجًا لشبق قد يأتي مع البلوغ. تسير تلك السخرية الشعبية بالتوازي مع استخدام خصائص الحمار وسماته الشكلية كهجاء ودلالة على عدم الفهم والنهم في الطعام والصوت المرتفع وغيرها.
ومن استحضار ذلك الحيوان كسيرة للتهكم على الحياة الجنسية لأحدهم، إلى ازدراء كل المهن المرتبطة به تقريبًا، يأتي قصاص الماشية في المقدمة، كفرد يعمل بمهنة غير مقبولة اجتماعيًا وتحتجب عنه العائلات في النسب والمصاهرة في القري ويمارس ضده عزلًا اجتماعيًا جبريًا وتوصم عائلته وأحفاده من بعده كونه «حلاق حمير»، وتتسع تلك النظرة الدونية لتشمل الحلاق العادي أو المزين الذي لا يجيد عمله، فيقع في مرمى السخرية والتهكم أيضًا ويوصف أداؤه لعمله أنه قصاص الماشية، أما صاحب العربة الكارو فهو من الطبقات الاجتماعية غير المقبولة أيضًا بسبب مهنته كأجير وتعامله مع ذلك الحيوان.
لم يقدس المصريون القدماء الحمار ولم تقدم المثيولوجيا الفرعونية آثارًا تشير إلى دخوله في مجموعة المقدسات من الحيوانات والطيور بإعطائه صفة المعبود، كحيوانات أخرى،منها القطة التي رمز لها بالمعبودة «باستت» والتمساح «سوبك» والبقرة «حتحور» وغيرها التي تزيد عن 10 معبودات، كل منها اختصت بأمر ما، سوى تلميحات غير مؤكدة ترجع لعصر الأسرة الأولى الفرعونية، وإلى ترميز الحمار بالمعبود «ست» أحد أبطال ملحمة إيزيس وأوزوريس وكان «ست» يرمز للشر.
يقول سليم حسن عالم المصريات في مؤلفه «موسوعة مصر القديمة ـ الجزء الثاني» إن الحمار كان يستخدم في حمل الأثقال منذ عهد الدولة القديمة وأن القائد «حرخوف» في عهد الأسرة السادسة الفرعونية استخدم 300 حمار في رحلته إلى بلاد النوبة لجلب البخور والعاج.
ويبدو أن المعاملة القاسية مع ذلك الحيوان ممتدة منذ أيام الفراعنة. يوضح سليم حسن في نفس الكتاب، أن النقوش المصرية لم تصور مناظر معاملة سيئة للحيوانات إلا الحمار الذي كان يضرب لعصيانه وجموحه، وتتعدد أشكال المعاملة القاسية من صاحب الحمار أيًا كانت وظيفته، ومنها الأحمال الزائدة والضرب باستخدام العصا بأنواعها وأدوات أخرى.
وأكثر حوادث المعاملة القاسية للحمار الذي حظي بشهرة ما فعلته «استر فوغت» وهي منظِّمة رحلات سويسرية إذ حررت محضرًا ضد مالكه الذي يضربه ضربًا مبرحًا بالمنطقة الأثرية بسقارة بالجيزة واشترته بمبلغ 300 يورو ـ حوالي 6 آلاف جنيه مصري، وأودعته بعد علاجه بمزرعة مملوكة للسيدة أمينة أباظة، سيدة المجتمع وسليلة العائلة الأباظية، وأبرز المدافعات عن حقوق الحيوان في مصر.
الحمار «سيرافينا» حسبما أسمته منظمة الرحلات السويسرية هو الحمار الثاني ـ سعيد الحظ، في مصر، بعد الحمار الذي اشترته الأميرة ماري ابنة الملك جورج الخامس ملك بريطانيا من الأقصر كهدية لأبنائها. وهذه الواقعة تعود لسنة 1928 من القرن الماضي.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 22 ساعةبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون