يتهم مراقبون النظام المصري بالتحكم الكامل في معظم وسائل الإعلام التي تبث من داخل مصر، ومنها فضائيات، وصحف، ومواقع، ومحطات إذاعية.
وطال الاتهام أيضاً بعض الأعمال الفنية، التي يتردد بقوة في الوسط الفني أن النظام يُشرف على إنتاجها، ومنها أعمال سينمائية وتليفزيونية، والهدف دائماً إيصال رسائل سياسية معيّنة إلى الجماهير.
ولكن يبدو أن النظام المصري الحالي لا يرغب فقط في الإشراف من بعيد على إنتاج بعض الأعمال الفنية التي تحسّن صورته وتنتجها كيانات خاصة، بل يسعى إلى أن يُنتج بنفسه هذه الأعمال ليضمن التحكم الكامل في كل تفاصيلها، وذلك عبر إنشاء كيان حكومي لإنتاج أعمال فنية.
إشراف وتوجيه من تحت الطاولة
يمكن اعتبار مسلسل "نسر الصعيد"، إنتاج رمضان 2018، والذي لعب دور البطولة فيه الممثل محمد رمضان، هو أحدث الأعمال التي أشرف النظام المصري على تنفيذها، من تحت الطاولة. وروّج المسلسل لصورة إيجابية لضابط الشرطة باعتباره الشهم، والشجاع، والمضحي دائماً، وهي الصورة التي تتناقض وتقارير حقوقية تتهم وزارة الداخلية المصرية بممارسة التعذيب الممنهج، والإخفاء القسري لمواطنين ونشطاء. وكان مصدر من صناع "نسر الصعيد" أكد لـ"رصيف22" أن هناك شخصاً من الإدارة العامة للشؤون المعنوية في وزارة الداخلية ومندوباً من وزارة الدفاع، يُشرفان على حوار ومونتاج كل حلقة من حلقات المسلسل بالتعاون مع شركة "العدل غروب" المنتجة للعمل. لم يكن مسلسل "نسر الصعيد" الوحيد الذي طالته اتهامات بتدخل مؤسسات الدولة في محتواه، فهناك قائمة كبيرة من الأعمال الفنية تعرّضت لاتهامات بتمجيد المؤسسات الأمنية في مصر، سواء عبر عرض رؤية النظام لحربه على "الإرهاب"، أو الترويج لمواقف السلطة السياسية وتحسين صورتها. وأحد هذه الأعمال مسلسل "كلبش 2" الذي عرض في رمضان 2018 وحقق نسبة مشاهدة عالية. وأظهر المسلسل صورة أقرب للملائكية لضابط شرطة يعمل في سجن طرة، وهو السجن ذاته الذي تعتبره تقارير حقوقية محلية ودولية سيئ السمعة. وطالت الاتهامات أيضاً أعمال سينمائية منها فيلم "جواب اعتقال"، من بطولة محمد رمضان، وإياد نصار، ودينا الشربيني وإنتاج عام 2017، والذي تناول شجاعة الأمن المصري في حربه ضد "الإرهاب".أكثر من مجرد إشراف وتوجيه؟
لكن من الواضح أن ما كان يحدث من تحت الطاولة سيحدث فوقها قريباً، إذ أصدرت أخيراً وزيرة الثقافة الدكتورة "إيناس عبد الدايم" قراراً وزارياً حمل رقم 393 لسنة 2018، يتضمن لائحة النظام الأساسي لكيان حكومي جديد سيتخذ شكل شركة قابضة تستثمر في المجالات الثقافية والسينمائية. رسمياً، تقول الحكومة المصرية إن الهدف من إطلاق هذا الكيان رغبة الدولة في دعم صناعة السينما، والنهوض بمستواها الفنى والمهني، وإعادة إحياء صناعة السينما والإبداع الثقافي السينمائي، وتحقيق الصالح العام، وإثراء المجتمع الثقافى والسينمائي، وتلبية طموح الشعب المصري، وذلك بحسب بيان صادر عن وزارة الثقافة. ولكن بعيداً عن البيانات الرسمية، يؤكد الإعلان رسمياً عن هذا الكيان أن النظام المصري لم يعد يكتفي بالإشراف من بعيد على بعض الأعمال الفنية، بل يرغب في صناعة هذه الأعمال بنفسه، ليتحكّم بها بالكامل.رحلة إنشاء شركة قابضة
لم يكن القرار الذي أصدرته عبد الدايم من بُنات أفكارها، إذ تعود بداية رغبة الدولة في التدخل بقوة في سوق إنتاج الأعمال الفنية إلى عام 2015، أي بعد شهور قليلة من تولي عبد الفتاح السيسي منصب رئيس الجمهورية. وأصدر رئيس الوزراء حينها إبراهيم محلب قراراً بعودة أصول السينما المصرية إلى وزارة الثقافة، والعمل على إنشاء شركة قابضة للصناعات الثقافية، منذ ذلك الحين تعمل وزارة الثقافة على هذا الملف. ولكن الخطوة العملية المهمة كانت عام 2017، حين أعلن الصحافي المصري حلمى النمنم، الذي كان وزيراً للثقافة حينها، أن وزارة الثقافة اقتربت من إنجاز شركة لصناعة السينما.يبدو أن النظام المصري الحالي لا يكفيه الإشراف من بعيد على إنتاج بعض الأعمال الفنية التي تحسّن صورته وتنتجها كيانات خاصة، بل يسعى إلى أن يُنتج بنفسه هذه الأعمال ليضمن التحكّم الكامل في كل تفاصيلها.وبعد تولي عبد الدايم منصب وزيرة الثقافة، أكملت العمل على الملف، وأصدرت قراراً في 20 يونيو الجاري، يتضمن لائحة النظام الأساسى لهذا الكيان. وستشمل الشركة القابضة إلى جانب شركة السينما، شركات فرعية أخرى، منها شركة الصناعات التراثية، وشركة الثقافة العامة والفنية. وعلم "رصيف22" أن الشركة القابضة ستنتج، إلى جانب الأفلام السينمائية، برامج وأفلام وثائقية ومسلسلات تليفزيونية وأغاني. لكن اهتمامها الأكبر والرئيسي سيكون إنتاج أفلام سينمائية بميزانية كبيرة وفريق عمل قوي.
سلاح ذو حدين
قال الناقد الفني محمد عدلي إن الأنظمة السياسية المصرية على اختلافها أدركت تأثير الفن عموماً والسينما خصوصاً على الجمهور المصري، لذلك لم تتوقف أبداً محاولاتها للسيطرة على السينما، سواء بطرق مباشرة عبر إنتاج تلك الأعمال، أو بطرق غير مباشرة عبر توجيه صناع السينما لتقديم أعمال ذات رسائل سياسية معينة. وأضاف أن التجسيد الأبرز لتوجيه المحتوى الفني أو السيطرة عليه يظهر واضحاً في هيئة الرقابة الحكومية، التي ترفض التصريح بتصوير أو عرض فيلم داخل مصر من دون موافقتها، وبالتالي ضمنت الدولة عدم تمرير عمل فني لا تريد الحكومة أن يشاهده الناس. وكثيراً ما تفرض الرقابة على صناع الأعمال الفنية تعديل أعمالهم إذا احتوت مشاهد أو رسائل لا ترغب السلطة في عرضها، ولا يتوقف صناع السينما عن الشكوى من تحجيم الرقابة لإبداعهم. ووصف عدلي وجود شركة قابضة حكومية بأنه سلاح ذو حدين، معتبراً أن الجانب السلبي يتمثل في انتقاء المواضيع التي ستقدم بشكل يخدم فقط رؤية المتحكمين في الشركة الحكومية، وحينها ستصبح مهمة هذا الكيان الوحيدة خدمة السلطة وليس صناعة السينما. أما الجانب الإيجابي فسنراه فقط في حال قرر القائمون على هذا الكيان أن يكون منافساً حقيقياً لشركات الإنتاج الخاصة، وأن يقدم أفلاماً بميزانية ضخمة تتناول مواضيع جيدة وجريئة، وهنا سيصبح الأمر لمصلحة الجمهور وصناعة السينما من حيث زيادة العدد وتحسين المحتوى. وتابع: "لكن التخوف من أن يعمل الكيان الحكومي الوليد على فرض أعمال معينة على الجمهور المصري، تخدم أهدافاً سياسية معينة، وحينها سنرى أفلاماً تخدم هدفاً واحداً ورؤية واحدة". واعتبر عدلي أن "أفضل شكل لوجود الدولة في السينما هو الدعم المادي المقدم لمشاريع سينمائية جيدة تقترحها جهات إنتاج خاصة، وبالتالي الإنتاج المشترك بين القطاعين الخاص والعام هو الافضل في تقديم مواضيع جيدة وغير موجهة". وحاول "رصيف22" التواصل هاتفياً مع عبد الدايم للحصول منها على تعليق حول الكيان الجديد، لكنها لم ترد على الاتصالات أو الرسائل.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...