عادت صدامات الأجيال الكبيرة والشابة في مصر على وقع الغليان الافتراضي التالي على قرار الحكومة رفع أسعار المحروقات من جديد، ضمن حزمة إجراءات طلبها صندوق البنك الدولي إلى تصدر المشهد مرة ثانية.
في سنوات ما قبل ثورة 25 يناير، كان نطاق هذه الصدامات فرديًا في إطار المناقشات اليومية داخل البيوت بين "جيل شد الحزام"، الذي عاصر فترات حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وصولاً إلى الرئيس المخلوع حسني مبارك، وبين جيل حقبة الثمانينات والتسعينات، المفتوحة عيونه على عالم جديد شهد ثورات سياسية وقفزات تكنولوجية عالمية.
هذه الصدامات، التي عادة ما يوجه فيها اللوم إلى "العيال اللى مجاعتش" بقلة الصبر على الضغوط الاقتصادية، ظهرت علانية في الحوارات الاجتماعية الكبيرة والفضاء الافتراضي بقوة، تزامناً مع زخم حراك الشوارع منذ العام 2011.
بين "باتا" شيال الحمول وجيل قتلت أحلامه حكومته
قبل دخول رمضان ببضعة أيام زادت أسعار تذاكر مترو الأنفاق 250% في ثاني زيادة لهت في أقل من عام، وخلال الشهر تم إقرار زيادة تعرفة الكهرباء 25% للمرة الرابعة في عهد السيسي. وفي ثاني أيام عيد الفطر رفعت أسعار الوقود بنسب تجاوز بعضها 50%، للمرة الثالثة منذ بدء تنفيذ برنامج صندوق النقد في 2016. تراكم غضب المصريين في فترة قصيرة، فخرج "جيل شد الحزام" ليقلل من استياء الشباب الذين يواكبون هذه الضغوط المتلاحقة بل ويوبخهم عليها ويتهمهم بقلة الصبر على الشدائد وفتور عزيمتهم، وكأن المطلوب منهم أمام كل ما يحدث الصبر والاحتساب وإيجاد طرق بديلة للتغلب على زيادة الأسعار. وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، تبادل المنتمون إلى الجيلين تفنيد الحجج والمواقف الحكومية، وإن تخللها طيف من السخرية. إحدى التغريدات التي انتشرت بكثافة على تويتر واستنفرت مستخدميه، صدرت من حساب شخص اسمه عماد عثمان، الذي قدم نفسه بأنه "من جيل اربط الحزام كنا جيل خشن وحمول وشال البلد بعد النكسه واكل عيش اسود وزيت بنى واتنططنا فى الاتوبيسات ولبسنا باتا وعمرنا ماشتكينا .. ياجيل الكافيهات". في المقابل، أمطره البعض بوابل من التعليقات الغاضبة، تضمنت اتهام الكبار بالصمت "والمشي جنب الحيط" لعقود طويلة، بسبب انتهاكات الأنظمة الديكتاتورية المتوالية، وعدم مطالبتهم بحقوقهم الأساسية، بينما خرج هؤلاء الشباب وضحوا بدمائهم رغبةً في عيش كريم لهم وللأجيال القادمة قبل أن تلتف الحكومة على ثورتهم. ولسان حالهم يقول ربما صبر جيل شد الحزام على شدائد كانت نتاج سياسيات مستبدة، لكنه وجد وظائف "حكومية" متوفرة تنتهي ساعات دوامها في الثانية ظهرًا، ومسكن زهيد الثمن وسلع مدعومة، بينما يواجه "جيل الكافيهات" الحياة دون أي من هذه المزايا، مع صعوبات معيشية تضاعف معاناته.صناعة المستحيل من الديتول إلى صابون الغسيل
منذ 2016، روَج مؤيدو الرئيس المصري لأفكار "بديلة" لمواجهة الغلاء، مثل إبراهيم الجارحي، الذي دعا إلى زراعة "فراولة أورجانيك" على أسطح البيوت، إلا أن هذه الوسيلة أصبحت للمزاح من قرارات الحكومة، بعدما بات معتادًا أن يتهكم أشخاص بالسؤال عن كيفية زراعة البنزين والجنيه المصري "الأورجانيك". هذه الحيلة أصبحت مألوفة مع كل زيادة في الأسعار. الجديد هذه المرة فكرة طرحها ثلة من الشباب على تويتر، دعوا خلالها إلى صناعة الديتول ومنظفات الغسيل، مثل آريال، في البيت، للتغلب على ارتفاع محتمل في قيمتها التجارية بعد رفع تعرفة الوقود. إلا أن هذه الدعوات قوبلت بلهجة ساخرة، وقال البعض إنها منتجات خطرة قد تسبب بكوارث في داخل المنازل، في حين اعتبر آخرون أن أسعار خاماتها أغلى من قيمة المنتج النهائي في المحال التجارية.صب في مصلحة من؟!
"بالنسبة إلى البسطاء من مواطني الدول المعنية هنا، أي الدول المتدنية الدخول أصلاً، تترك هذه السياسة، في الحالات العامة، نتائج وخيمة جداً لجميع حكومات هذه البلدان التي تتصرف وفق نهج لا اختلاف فيه: إنها تحمل الجماهير العاملة والفقراء تبعات التقشف المالي". هذا مقتطف شاركه الصحافي الاقتصادي المخضرم، وائل جمال، من كتاب الأكاديمي والصحافي الألماني أرنست فولف "صندوق النقد الدولي قوة عظيمة في الساحة العالمية". https://www.facebook.com/photo.php?fbid=10156702738093933&set=a.10151169022693933.505617.550678932&type=3 يقول فولف في مؤلَفه: "يمكن القول إن قروض الصندوق تتسبب، في نهاية المطاف، في تردي الوضع المالي أكثر فأكثر، الأمر الذي يتيح للصندوق لأن يطالب الدول المعنية بتنفيذ برامج تقشفية لا نهاية لها ولا آخر... لم يستخدم الصندوق أسئلة أو جنودًا، بل كان يستعين بوسيلة غاية في البساطة وبواحدة من آليات النظام الرأسمالي: أعني عمليات التمويل". وتنفذمصر قائمة إصلاحات اقتصادية شملت تحرير سعر صرف العملة المحلية منذ نوفمبر 2016، وفرضت ضريبة القيمة المضافة ضمن هيكلة النظام الضريبي وتقليص الدعم سنويًا، في إطار برنامج قرض قيمته 12 مليار دولار لمدة 3 سنوات مع صندوق النقد. هذه السياسات تجسدت في موجات متتالية من غلاء أسعار الخدمات والسلع الأساسية في فترات زمنية قصيرة، عُرفت شعبيًا باسم "الصب في المصلحة"، وهي عبارة مستوحاة من تصريحات المسؤولين، في حين يرى الرئيس عبد الفتاح السيسي أنها "دواء مُر" لا بد منه. ومع تداعي قيمة الجنيه المصري، لا سيما مع ارتفاع حدة التخضم، يعجز المصريون عن الوفاء باحتياجاتهم اليومية، وقد دخلت شرائح اجتماعية جديدة تحت خط الفقر، لا يقل عددها عن 30 مليوناً من إجمالي 100 مليون مواطن، بينما تكافح فئات أخرى للبقاء عبر ترشيد متكرر لنفقاتها.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...