شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
ماذا يصنع هذا الرجل في بيتي؟

ماذا يصنع هذا الرجل في بيتي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 13 يونيو 201808:22 ص
مرات، عندما نرتكب حماقة ونقرأ رواية ما أو سيرة ذاتية لشخص ما، نشعر أن هذه الشخصية أو تلك هي نحن تماما، أو تشبهنا لحد كبير ولهذا تفسيراته الكثيرة والمعقدة عند علماء النفس، وجميعها تصب في خانة الوهن النفسي، حسنا أعترف بذلك: أنا مريض نفسيا، أعيش حياة لا تشبه حياتي، أو لاتشبه فكرتي عن حياتي، ربما هي النسخة الأكثر جحيمية منها، لأسوق مثالا يشرح ما أعنيه: كنت أتابع الأخبار السياسية لوقت طويل، المحطات الاخبارية التي تتبع الحدث أو التي تختلقه أحيانا، والمحطات المحلية التي تتجنّب الحدث، ثم مللت من تكرار أخبار الموت والتفجيرات والانهيارات، صور الدمار والشهداء في خبر، والتحرير والفطائس في الخبر نفسه بصياغة أخرى، انتقلت مع رعبي ومللي المتراكم إلى محطات المسلسلات والأفلام ثم إلى محطات الأغاني السريعة والطبخات السريعة إلى أن انتهيت إلى صرف ساعات في متابعة ما لا قبل لي به وما لا رغبة لي أصلا بحضوره، صرت شخصا آخر أشبه من كان في ثيابي سابقا لكنه ليس هو. لي نفس الاسم والبيانات الشخصية لكن بجوانيات غامضة لم تعد معروفة، وأستطيع أن أقيس على ذلك الكثير من الأشياء المتعلقة بتفاصيل حياتي اليومية، نوعية الشاي، القهوة، لحم الجواميس الجاف، رغيف الخبز غامض اللون، الأرز الناشف، الخضار المروية بمياه الصرف الصحي، المناديل الخشنة كليف الجلي، كل ما في حياتي تم استبداله بنوعية رديئة تدريجيا، الأبناء، الأخوة، الأصدقاء، الطرقات، المقاهي، المدن، الوطن، تم الاحتفاظ بالشكل الخارجي فقط مع زيادة في مسحة الحزن واللامبالاة، أما الداخل فحكاية أخرى. كان البحر يبعد أمتارا قليلة عن أجسادنا، كنا نتمرغ في رماله قبل السباحة وبعدها، لاحقا اختفت هذه الإمكانية مع توسيع المرفأ التجاري وبيع باقي الشط السوري لأصحاب رؤوس الأموال وشركائهم المحليين، لكن البحر بقي هناك، نستطيع رؤيته من بعيد، نشم رائحته لكن دون أن نبلل أقدامنا بملحه. ثم ظهرت تلك البنايات العملاقة التي منعت عنا حتى إمكانية رؤيته، كنا نستيقظ بمرح لنذهب إلى المدرسة، صرنا نحتاج إلى آليات ثقيلة لنمضي صوب مصائرنا الجافة، كنا نتحين الفرصة والمساحة الفارغة لنكتب أسماءنا على الجدران، على جذوع الأشجار، على الدفاتر والكتب المدرسية، صرنا نسعى لأن نمحى، لأن ننسى، لأن نُترك في عزلتنا بحيث لا يذكرنا أحد فلا نذكر أنفسنا.
"أعيش حياة لا تشبه حياتي، أو لاتشبه فكرتي عن حياتي، ربما هي النسخة الأكثر جحيمية منها"
"صرنا نسعى لأن نمحى، لأن ننسى، لأن نُترك في عزلتنا بحيث لا يذكرنا أحد فلا نذكر أنفسنا"
أقرأ رواية فأختار الشخصية الأقل حظا والأكثر ألما وأظنها أنا ولاحقا أدافع عن فكرة انتحارها أو تعفنها في زاوية ميتة، كأن هذا موتي الشخصي، انتحاري الخاص، أبحث عن اسمي في قوائم قتلى المقابر الجماعية، قتلى المعتقلات الوطنية، وأراه يوميا، عدة مرات، أرى شخصا يشبهني، يستيقظ مثلي ويكتب مثلي ويستخدم كلماتي نفسها ويداعب صديقتي ويقبل ابنتي لكنه ليس أنا، كأني استبدلت أيضا بآخر أقل إثارة للمشاكل و... أرخص، صنع في الصين ربما، أكثر مطواعية ويحتوي على زر تشغيل وإطفاء. أفتش في الصور القديمة، صور طفولتي، شبابي، زواجي، فرحي بمولودتي، لا أجد نفسي في تلك الأمكنة، أجد شخصا آخر كان هناك، يجلس في الصور بابتسامة بلهاء ربما تدعى ابتسامة الامل، لكني لا أعرفها الآن، لا أفهمها حتى، أستغرب أني كنت أضحك في الصور، في المناسبات الاجتماعية، الحفلات، الرحلات، اليوم إذ قبضت على ملامحي منفرجة أستغرب وأستعيد قناعي الأصلي، وجهي الحقيقي. ليست الحرب هي الملامة في كل ما حصل، رغم فعاليتها الشديدة، الملام أيضا هذا الغول الذي أتى برفقتها والذي يسعى لتبديل الهواء والماء، الجلود واللحم الحي، الغول الخفي الذي يسير ضمن خطوط اليومي، ويستبدل كل شيء، يستبدل الماء بسائل آخر لكنه ليس ماء، يستبدل القلب بوعاء آخر لكنه ليس قلبا، يجري استبدال كل شيء في هذه البلد كما جرى استبدال علمها وحدودها، بشرها وأشجارها وترابها، بعد قليل لن نجد شيئا مما نعرفه، بعد قليل لن نعرف أننا لم نعرف شيئا. أجلس لأكتب شيئا فأقول شيئا آخر، أجرّب الحديث عن مدينتي التي انتهت إلى وحش بلا ملامح من أي نوع، فأنتهي إلى الحديث عن أوراق النعي التي تغطي الجدران، أجرب أن أحكي عن الحب فتتناثر قطرات الدم من فمي، أضم حبيبتي فتشعر ببرودة جسدي كأني جثة. أدخل إلى المنزل فأرى شخصا يجلس في مكاني المفضل ويرتدي بيجامتي، يستخدم كوبي وأدوات الحلاقة خاصتي، لا أعترض على شيء ولا أوافق على شيء، لقد سرقوا جثتي أيضا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image