مقطورة قديمة منصوبة على منصّة، تصدر بين الحين والآخر أنين قطار بخاري مع هدير العجلات التي تستفز تداعيات الذاكرة. هذه المقطورة كانت الرابط بين أوروبا وعواصم الشرق: اسطنبول ودمشق والقدس والقاهرة وبغداد في نهاية القرن التاسع وبداية القرن العشرين، وهي تعود اليوم مع ثلاث عربات ضخمة لتقدِّم رحلة افتراضية من أماممعهد العالم العربي وسط باريس.
[br/] مسرح أحداث
منذ عام 1934، تحوَّل أحد فنادق إسطنبول إلى متحف أثري، ففي إحدى غرفه، وتحديداً الغرفة 411 كتبت أغاثا كريستي Agatha Christie روايتها الشهيرة "جريمة في قطار الشرق السريع".
[br/]
وقد استوحت أحداث روايتها من القطار المذكور، فالأبطال يسافرون عبره من مدينة حلب إلى تركيا، وهم اثنا عشر شخصاً يُشتبه بارتكابهم جريمة قتل حدثت على متن القطار. هكذا اصطبغت الأحداث بمزيد من التشويق والإثارة، لأنها مأخوذة من عالم السفر الملهِم الأغزر للكتاب. قبل كتابة الرواية، كانت أغاثا قد سافرت حقيقة عبر هذا القطار والتقت فيه حبيبها عالِم الآثار البريطاني ماكس مالوان Max Mallowan الذي حقق لها حلمها في السفر إلى العراق وسوريا وتركيا.
[br/] من هذا القطار أيضاً استوحى الكاتب الألماني هيرمان هسه Hermann Hesse روايته: "رحلة إلى الشرق" عام 1932، أما الجاسوس الشهير لورانس العرب فقد استقلّ القطار بتكليف من الحكومة البريطانية وسافر إلى الشرق ليعدّ الثورة العربية الكبرى، وخلال إحدى المعارك ضد العثمانين نسف لورانس إحدى السكك التي تربط دمشق بالجزيرة العربية.
[br/] إضافة إلى ذلك، شهد القطار توقيع اتفاقية الهدنة بواسطة الجنرال فوش Foch نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918. هو لم يكن مجرد وسيلة نقل إذاً، بل مسرح أحداث سياسية ومصدر إلهام للفنانين وإحدى الوسائل التي أسهمت في التحوّلات العالمية المختلفة.
[br/]
الثورة الصناعية
عام 1883 صنع المهندس البلجيكي جورج ناجيلميكرز Georges Nagelmackers هذا القطار، وقد أراد له أن يكون قطاراً برجوازياً فريداً يهتم بالسياحة والتمتع بالمناظر الخلابة في شرق أوروبا وتركيا أكثر من كونه قطاراً عملياً. استدعى لتصميمه مهندسين عالميين استخدموا أجود قطع الأثاث والفرش، كما ضمّ القطار أرقى وسائل الخدمة، كل ذلك بإسهام من السلطان العثماني عبد الحميد ودعم من قيصر ألمانيا فيلهلم الثاني Wilhelm II. رمى السلطان إلى إعادة بعث الإمبراطورية العثمانية من رقادها عن طريق وصلها بالمدن الصناعية الكبرى، الأمر الذي سيعود عليها بفوائد اقتصادية وسياسية جمة.
[br/] القطار عام 2014
[br/]
[br/] يبدو الأمر غريباً بالنسبة إلى الزائر، ما الذي تفعله قاطرة بخارية حقيقية وثلاث عربات ركاب ضخمة في هذه الساحة؟ إذ كثيراً ما تتم محاكاة الأعمال الضخمة بأعمال شبيهة لتجنب التكلفة والجهد. لكن في هذا المعرض الذي أقيم على مساحة قدرها 800 متر مربع وفي الهواء الطلق، آثر مدير معهد العالم العربي جاك لانغ Jack Lang نقل العربات والمقطورة كما هي بالاتفاق مع شركة القطارات الفرنسية SNCF، علماً أن العربة الواحدة تزن ستين طناً، وقد نُقلت مع معداتها وأثاثها. لا تبدو العملية مكلفة بالنظر إلى الأهمية الحضارية للقطار، وعدد الزوار الذي توقّعت الشركة الفرنسية بلوغه نصف مليون طوال مدة إقامة المعرض (حتى مطلع سبتمبر المقبل). الداخل إلى القاعات المحاذية للعربات سيرى عشرات اللوحات الفنية المستوحاة من تلك الحقبة، مع بزات السائقين وغرف النوم والطعام التي استخدمها المسافرون، ومنحوتات وخرائط مرفقة بالشروح والرسوم التوضيحية التي تسرد سقوط الإمبراطورية العثمانية وبداية الثورة العربية الكبرى عام 1916.
[br/]
[br/]
[br/] وفي صدر القاعات، شاشات كبيرة تعرِض رحلات القطار وحكاياته، بالإضافة إلى الفيلمالسينمائي المُستوحى من رواية أغاثا كريستي والذي حمل عنوانها نفسه عام 1974. كل ذلك في إطار ديكور وموسيقى شرقية وأماكن مخصصة لبيع المنتجات اليدوية القديمة، وبطاقات بريدية لمحبّي المراسلات. لم يغب الانسجام بين الألوان والموسيقى والمقتنيات عن بال المصممين ما أخرج المعرض من تقليديته وحوّله إلى عمل فني متكامل.
[br/]
[br/] فور الخروج من المعرض الذي أطلق عليه اسم "كان يا ما كان قطار الشرق السريعIl était une fois l'Orient Express ، نشعر بأن المسافرين الحقيقيين ما زالوا في القطار الذي كان يجتاز المسافة بين باريس وإسطنبول خلال 81 ساعة وثلاثين دقيقة منذ عشرات السنين، لكنه اليوم يجتاز العصور في ساعة واحدة ضمن رحلة تاريخية شاملة. رحلة هي أكثر إغراءً لأبناء الحضارة الغربية، إذ كثيراً ما كانت كلمة الشرق بالنسبة إليهم مرادفة للتحليق بالخيال والكشف اللانهائي، ولعلها إحدى غايات القطار المتوقف عن العمل منذ عام 1977. أما عودته، فقد وقعت في وقت يحضر الشرق بكل تحولاته الصعبة من خلال نشرات الأخبار في أرجاء الغرب، وإن لم يكن السفر متاحاً إلى الشرق هذا الصيف، فقد أتيحت للأوروبيين فرصة رؤيته من باريس.
[br/]
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين