للّون الأزرق درجات كثيرة، وليس من ضمنها ما يمكننا وصفه بـ"الأزرق الكئيب". لكن إحدى درجات الأزرق صارت كئيبة في مصر لأنها لون عربة الترحيلات التي تنقل المساجين والمتهمين.
أثناء احتجاجات يناير 2011، أحرق متظاهرون مصريون عربات ترحيلات عدة كانت تقف أمام بعض أقسام الشرطة المصرية. قصد المتظاهرون وقتها الانتقام من كل مظاهر القمع والظلم والقهر.
لكن إلى اليوم، ظلت عربة الترحيلات أقرب إلى وحش يتغذى على كرامة المصريين وأمنهم. تراها تسير في الشوارع وداخلها عشرات المحتجزين في جحيم حقيقي.
"الجحيم بعينه"
"نعم هي الجحيم بعينه"، يقول الناشط الحقوقي عطية أبو العلا الذي اتُّهم عام 2010 بالعمل على قلب نظام الحكم.
واجه أبو العلا "تعذيباً لا يتخيله إنسان" داخل أحد السجون المصرية بحسب شهادته لرصيف22، لكن التعذيب الذي لن ينساه أبداً شهده في عربة الترحيلات.
يتذكر الناشط المصري المقيم حالياً في تركيا بمرارة تجربته مع تلك العربة، ويروي: "كنا وقتها في فصل الشتاء، رغم ذلك كانت درجة الحرارة شديدة جداً داخل العربة التي وُضعت فيها مع عشرات المساجين الآخرين من مدينة بلبيس بمحافظة الشرقية (على بعد حوالي ساعتين من القاهرة)، لتنقلنا من مكان احتجازي إلى مقر نيابة أمن الدولة العليا في منطقة التجمع بالقاهرة".
عدد ساعات كبير قضاه أبو العلا داخل العربة التي تعطلت أكثر من مرة بسبب حالتها الرديئة، والأسوأ أن جوّها كان خانقاً بسبب رائحة البول التي تفوح من كل مكان داخلها، بحسب قوله.
ويضيف أن السائق كان يعذّبهم بطريقته الخاصة عن طريق السير بتهوّر والقفز بدون إبطاء سرعة العربة على المطبات في الشوارع.
"عند كل مطب تمر فوقه العربة، كانت تصطدم رؤوسنا بسقفها الحديدي القوي. لن أنسى أبداً هذا الصندوق اللعين"، يقول.
كان أبو العلا وباقي المتهمين داخل العربة يحتاجون إلى تناول الماء، لكن المسؤولين رفضوا تزويدهم به، فأخذوا يصرخون "الحقونا بنموت"، إلا أن رجال الأمن المكلفين بحماية العربة اكتفوا بالضحك.
ومع كل عربة ترحيلات مصرية يتم إرسال عربات حماية تواكبها وتحوي بعض رجال الأمن، بهدف ضمان عدم هروب السجناء والمتهمين. لكن أوضاع هذه العربات مختلفة تماماً عن أوضاع عربات الترحيلات، فهي حديثة، مريحة، وغالباً ما تكون مكيفة.
"لم يكن هناك مكان لموضع قدم داخل العربة، كنا بدون مبالغة فوق بعضنا البعض، من دون تهوئة، غير قادرين على التنفس، كان الأمر كابوساً لن أنساه"، يتذكّر أبو العلا.
حين علم بحادث عربة الترحيلات الشهير الذي قتل فيه 37 مصرياً من أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي، على يد قوات الشرطة، أثناء ترحيلهم بالقرب من منطقة سجن أبو زعبل بمحافظة القليوبية، في أغسطس 2013، تذكر ما كان يتعرض له داخل هذه العربة. يقول إنه تخيّل مشهد الموت البطيء الذي تعرضوا له، حتى ماتوا خنقاً في صندوق من الحديد منعدم التهوئة.
"حادث عربة الترحيلات أصابني بحالة من الجنون والحزن الشديد، ويأتيني يومياً مثل الكابوس قبل نومي، كنت مثلهم أموت ببطء داخل عربة الترحيلات وتسببت هذه التجربة في إصابتي بحالات هلع وخوف مرضي، وحتى اليوم لا أنام بسهولة، لماذا يحدث لنا ذلك؟ حتى لو كان الأشخاص الذين يتم تكديسهم فى عربات الترحيلات مجرمين، فليس من العدل تكديسهم في صناديق كهذه، الأمر لن يتخيله إلا مَن جرّبه"، يعلّق أبو العلا.
"بنموت في العربية"
بحسب شهادة أخرى لمواطن مصري طلب منا استبدال اسمه الحقيقي باسم أحمد، فإن عربة الترحيلات هي أصعب تجربة تعرض لها في حياته.
قُبض على أحمد عام 2016 بتهمة حيازة أموال مزورة، ونُقل من قسم شرطة حدائق القبة الواقع بمحافظة القاهرة إلى إحدى النيابات الواقعة بنفس المحافظة.
أخذته عربة الترحيلات في السابعة من صباح أحد أيام شهر يوليو. كانت درجة الحرارة تزيد عن 36 درجة مئوية، لكن أحمد شعر أنها تزيد عن 50، ما جعله يعتبر أنه كان في جهنم."تركونا نواجه الحر الشديد داخل عربة قاتلة، قذرة، وفي درجة حرارة قاتلة. وحين تأخر إصلاح العربة بدأنا بالصراخ، خصوصاً بعد أن سقط أحد المتهمين من شدة الحرارة، مغشياً عليه"... عن تجربة المحتجزين داخل عربات الترحيلات في مصر
"كنت مثلهم أموت ببطء وتسببت هذه التجربة في إصابتي بحالات هلع وخوف مرضي، وحتى اليوم لا أنام بسهولة، لماذا يحدث لنا ذلك؟"... عن تجربة المحتجزين داخل عربات الترحيلات في مصر"تعطلت العربة قبل الوصول إلى النيابة، وأخذ السائق بمساعدة آخرين من رجال الأمن يصلحونها، وتركونا نواجه الحر الشديد داخل عربة قاتلة، قذرة، وفي درجة حرارة قاتلة. وحين تأخر إصلاح العربة بدأنا بالصراخ، خصوصاً بعد أن سقط أحد المتهمين من شدة الحرارة، مغشياً عليه. أخذنا نصرخ من النافذة الصغيرة المصفحة، طالبين من الضابط إنقاذ الشخص الذي سقط، لكنه قال لنا ‘دقائق وسيتم تصليح العربة’، لكن الدقائق تحوّلت إلى أكثر من ثلاثة ساعات"، يحكي أحمد. ويكمل: "كنا سنموت من العطش، التعرّق الشديد كاد يُخرج كل سائل من أجسادنا، رفض رجال الأمن أن يحضروا لنا مياه، وحين أخذنا نضرب بقوة جدران العربة الحديدية تجمع بعض الناس، وطلبوا من الضابط أن يحضروا لنا مياه على نفقتهم، فوافق. اشتروا لنا عبوات مياه معدنية، لكن الضابط رفض فتح الباب لإدخالها لنا، فقام البعض بإحضار ماصة، ووضعوها في العبوة وجعلونا نشرب المياه عبر النافذة الصغيرة، كنا حوالي 40 متهماً داخل العربة. رحنا نشرب المياه بالدور". "حرام عليكم يا ظلمة، هنموت من الحر، خرجونا، بنموت في العربية" قلنا لأحد عساكر الأمن فأخبر الضابط الذي كان جالساً على مقعد بالقرب من العربة ويتناول قهوة، فجاء إلينا بتهديد: "لو سمعت كلب منكم بيتكلم هنسيبكم طول اليوم هنا لحد ما تموتوا". "سكتنا حتى لا ينفّذ الضابط تهديده ونموت جميعاً"، يختم أحمد شهادته. إذلال المتهمين؟ يقول المحامي المصري أحمد أبو المجد إن مصر من الدول القليلة التي لا تزال تضع المتهمين أثناء محاكمتهم في أقفاص حديدية وكأنهم حيوانات، و"هذا أمر ضد حقوق الإنسان وانتهى في الكثير من الدول". ويضيف لرصيف22 أن "نقل المتهمين يتم في ظروف غير إنسانية، باستخدام عربات متهالكة، غير مطابقة للمواصفات، وبطريقة تهدف إلى إذلالهم وإهانة كرامتهم، ودائماً ما تكون الحجة هي قلة الإمكانات التي لا تسمح بشراء عربات مجهزة ولائقة". يتذكر المحامي المصري الذي تابع قضية عربة الترحيلات التي قُتل فيها 37 مصرياً عام 2013، مختنقين، بعد احتجازهم لست ساعات في سيارة الترحيلات في جو صيفي حار، أن التقرير الهندسي الرسمي أكد أن أقصى حمولة للعربة هو 24 شخصاً فقط، وأن الهواء داخل العربة لا يكفي لأكثر من 26 شخصاً بأي شكل، وبناء على هذا التقرير قيّدت القضية باعتبارها قتلاً عن طريق الخطأ، وفي النهاية عوقب نائب مأمور القسم بالسجن خمس سنوات وأخذ بقية المتهمين سنة سجن واحدة فقط مع إيقاف التنفيذ. بعيداً عن أن الحكم سبب صدمة للكثيرين، لكن ظل وضع عربة الترحيلات كما هو. لم يتم تقليل أعداد مَن تنقلهم حتى اليوم. [caption id="attachment_150243" align="alignnone" width="700"] خلال تظاهرات 2011[/caption] بحسب أبو المجد، هناك أسباب عدة تجعل من عربة الترحيلات جحيماً للمتهمين والمسجونين، منها عدم خبرة السائق، الذي غالباً ما يكون مجنداً غير مدرب على القيادة بشكل جيد، وليس لديه أية خبرة في حقوق الإنسان، وبالتالي من الممكن أن يوقف العربة في الشمس طوال اليوم، دون أن يشعر بأي تأنيب ضمير، متخيلاً أنه يؤدي دوره في خدمة الوطن. الأزمة في هذا الملف، بحسب أبو المجد، هي أنه لا يوجد قانون ينظم الأمر، لأنه خاضع للميزانية، وخاضع أيضاً لقرارات إدارية من المسؤولين في الأقسام والسجون، فهم مَن يحدد طرق نقل المساجين حسب الظروف المتاحة لهم، و"هذا ما يجعل مصر في ضرورة ملحة لقوانين جديدة تراعي القواعد النموذجية لمعاملة السجناء والمتهمين". يلفت أبو المجد إلى أن هناك قواعد أوصى باعتمادها مؤتمر الأمم المتحدة الأول لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين الذي عقد في جنيف عام 1955، وتنص على أنه يُحظر نقل السجين إلى السجن أو منه في ظروف سيئة من حيث التهوئة والإضاءة، أو بأية وسيلة تفرض عليه عناء جسدياً لا ضرورة له. وبرأي المحامي المصري والناشط الحقوقي محمد كارم، فإن الأزمة هي أنه لا توجد مادة واضحة وصريحة في القوانين المصرية تتحدث عن عربة الترحيلات، لكنه يشير إلى أن الدستور المصري يضمن لكل مواطن يُقبض عليه أو يحبس أو تقيد حريته بأي قيد، وجوب معاملته بما يحفظ كرامته، ولا يجوز إيذاؤه بدنياً أو معنوياً، كما لا يجوز حجزه أو حبسه في غير الأماكن الخاضعة للقوانين الصادرة بتنظيم السجون، على أن تكون أماكن آدمية وجيدة التهوئة. "عربة الترحيلات هي سجن متنقل، وبالتالي يجب أن تكون صالحة للمعاملة الآدمية، ولا يتعرض المتواجدون فيها لأي خطر على حياتهم، أو إهانتهم بأي شكل"، يقول لرصيف22. لكن المحامي المصري المهتم بقضايا حقوق الإنسان يرى أن الواقع مختلف، وأن السجون نفسها غير آدمية، ويموت فيها الكثيرون كل عام، مؤكداً أن تعامل مصر مع المتهمين أو السجناء يحتاج إلى تغيير جذري. بحسب الطبيب النفسي محد إدريس، فإن أي شخص يتعرض لتجربة التواجد في مكان مغلق من دون تهوئة، ومزدحم، مثل عربة الترحيلات بوضعها الحالي، تكون احتمالية تعرضه لمشاكل نفسية وعقلية وصحية واردة بقوة. يضيف إدريس لرصيف22 أن انفصام الشخصية هو أحد أبرز تلك المشاكل، كما قد يتعرض البعض لاضطراب فصامي عاطفي، وهي حالة تجعل الشخص يمر بحالات من ارتفاع المزاج والاكتئاب، وهناك احتمالية لأن يصاب البعض باضطراب اكتئابي، أو هلع مرضي، إضافة إلى اضطرابات النوم. "شخصياً قابلت بعض الحالات التي تعرضت لتجارب صعبة في السجون وداخل عربات الترحيلات واختارت تناول المخدرات والكحول في محاولة للهرب من تلك التجربة، لكن علاج تلك الحالات ممكن، إلا أنه يحتاج بعض الوقت"، يقول إدريس. وينصح إدريس أي شخص يتعرض لتجربة صعبة سواء أكانت تعذيباً في سجن أو داخل عربة الترحيلات بزيارة طبيب متخصص لتلقي الدعم والمساعدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...