شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
عرب جامعات الغرب: نقص هويّة أم فائضها؟

عرب جامعات الغرب: نقص هويّة أم فائضها؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 2 يونيو 201811:12 ص
قال لي صديق عزيز منذ فترة وجيزة: "إذا اشتريتي خلاّط من أميركا وجبتيه هنا - بتتوقعي أنو يشتغل بكوبس الكهرباء عندنا من دون ما تجيبيلو وصلة بتمشي مع كوبسات هالبلد؟ غلطانة." هنالك حقائق وخبايا لا يعلمها المرء عندما يتقدّم بطلب الالتحاق بجامعة أو معهد غربي لتدريس العلوم والفنون الحرّة في أي قطر من أقطار العالم العربي. فأيّاً كان المسار الذي أخذه، وإن نتج عنه أي نوع من أنواع الامتياز حقيقي كان أم زائف، وإن نال إعجاب كل من رأى شهادة مختومة بزخرفة الطابع المؤسسي الأكاديمي الأمريكي أو الأوروبي أو الأسترالي (أو أيُّ بلدٍ ذي أغلبيةٍ قوقازية العرق)، فإن المسار الأكاديمي الغربي لا يهيّئ الشاب العربي أو الفتاة العربية لمسيرة عمل ناجحة ومُرضية في العالم العربي الإسلامي. وإن أردتُ تحديد جملة الإفادة التي تخصّ سياقنا هنا، فخلاصتها كالتالي: هناك جيل ضائع من العرب الذين تتلمذوا في صروح الجامعات الغربية، والتي فيها بُنِيَتْ أساسيات هيكلتهم الإدراكية على مبادئ التفكير النقدي الحر. وسواء كانت هذه الجامعات على أرضنا الخيّرة أو في بلاد الغرب، فهاهم الآن قد وجدوا أنفسهم بعد عودتهم إلى حضن الوطن (أو بعد خروجهم من خلوة الوسط الأكاديمي الغربي) ضمن منظومة ترفضهم رفض الجسد لعضو فاسد تم زرعه فيه، وأضحوا غير قادرين على التعايش ضمن المساحة المهنية لبلدان لا تمت دساتيرها للتفكير الحر بصلة. "رأيتُ أفضل العقول في جيلي وقد دَمّرها الجنون، يَتضوّرون عُراة مُهَسترين، يُجرجِرون أنفسَهم عبر شوارع زنجية في الفجر باحثين عن إبرة خَدَر ساخطة" ستون عاماً مضت وما زال مطلع قصيدة غينسبرغ أفضل قالب لغوي لاحتضان هذه الظاهرة بأبسط معانيها. لست معنية بإعادة طرح الناموس الجدلي المعتاد الذي سئمنا سماعه من أفواه عرب الربيع العربي، ولكن ما دفعني لخط هذه الكلمات رغبةٌ في الوصول إلى ماهيّة هذه الأفكار التي بدأت بالنمو في رأسي منذ لحظات بداية وعيي الفكري. تأسيسي الأكاديمي كان في جامعة أمريكية الهوية قلباً وقالباً، شهدت خلالها، طيلة سنواتي الخمس طالبةً في كلية الآداب والعلوم والفنون، تكويناً في أسس ومبادئ التفكير الحر التي تعتبر أحد أشهر مقوّمات الهوية الأكاديمية الغربية. وفي شوارع الأدب العالمي وضمن أطر الفلسفة والفن البوهيميين، وجدت نفسي مع كتّاب وشعراء الثورات القومية. تلقّنت في قسم الصحافة والإعلام آداب وأخلاقيات المهنة، فإضافةً إلى تعلّمي الجانب الحرفي لقواعد اللغة وفنّ التمهّر بها، درستُ قواعد ممارساتها وفلسفتها الخالصة ومسؤوليتها المجتمعية. تشكّل فيّ زخم أكاديمي جارف بات يزداد تخصصاً يوماً عن يوم بعد كلّ كتاب قرأته وكل مادة أتممتها، وأضحيت مشبّعة بشعارات الحرية والحياة والسعي وراء السعادة. وطوال مسيرتي الدراسية، كنت أترقّب اليوم الذي سأطبّق فيه هذه المبادئ السامية، والفضاء الخلاّق الذي سيشهد إبداعي.
الانتماء الديني، الانتماء القَبَلي، الانتماء اللغوي.. فأي هويّة نختار؟ كما ترون، الخيارات وافرة والله يبارك ويزيد.
هناك جيل ضائع من العرب الذين تتلمذوا في صروح الجامعات الغربية، والتي فيها بُنِيَتْ أساسيات هيكلتهم الإدراكية على مبادئ التفكير النقدي الحر
خروجي من الوسط الأكاديمي إلى الوسط المهني كان بمثابة الانتقال من حقل النظرية إلى حقل التطبيق. شرعت عندها بتجهيز نفسي لصيرورة تاريخية: حق عبورٍ إلى سيادة سأستلمها بيدي وتحدد مصيري وتجعلني أصبح فرداً فعالاً في المجتمع يدافع عن الحرية وينهض بمبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والمساواة للجميع. ارتديت الخطاب الليبرالي بأزهى حُلله هناك سذاجة جوهرية في هذا النهج من التفكير تتبلور في محورين: 1- عقدة التفوّق التي تنتج عن المعتقد الخاطئ أن مجرد رمي كلمة "أمريكا" (أو الغرب) على أي شهادة دراسة عليا سيضاعف قيمتها. 2- عدم استيعابي آنذاك لكون عقدة التفوّق هذه مُتعمَّدة من قبل قوى تسعى لنشر علامة الغرب التجارية ضمن سلسلة جهود استعمارية حديثة واسعة في صراع هيجوموني نحو الهيمنة العالمية (وربّما سألقي باللوم هنا على حساسيتي المرضية من حس المؤامرتية الذي أحاول جاهدة أن أبتعد عن كل شبهاته، ولكن هل هذا ما تريده الحكومات المهمينة؟ أن تثقل مفهوم "نظريات المؤامرة" بدلالات سلبية تجعل كل من يقترب منها يشعر أنه بدأ يشهد تدهوراً في معدّل ذكائه؟). كما ترون، الاسترسال في سلسلة التفكير هذه عبث وجودي وممارسة لا طائل لها. ما علينا. بدأت بوادر الخيبة تتضّح تدريجيّاً عندما اصطدمت بالواقع المخالف تماماً للصورة الأكاديمية الوردية التي رسمتُها لمسيرتي في الحياة. يجدر التنويه هنا، أنني لست تحت تأثير واهم بأني لست ضمن الأغلبية العظمى من طلاب العالم، بغض النظر عن جنسياتهم، الذين يرسمون أحلاماً وردية تتدهور فور خروجهم من الجامعة، ولكنّ الصدمة تبدو أشد وطأة في أرضنا العربية المعطاءة خصوصاً عندما يتزامن هذا مع انتفاض العرب في ربيع عام 2011. "مَنْ انزووا بملابسَ داخلية في غرف بلا حلاقةٍ، حارقين أموالهم في سلال مهملاتٍ ومن أصغوا إلى الرعب عبر الجدار، بأحلامٍ، بمخدراتٍ، بكوابيس يقظةٍ، كحولٍ وعضو ذكريّ- وخصيً بلا نهاية" وما زالت كلمات غينسبرغ أفضل من غيرها في خلق قالب استعاريٍّ لغوي لسياقنا هذا. لم أكن وحيدة فيما كنت أشعر به. فظاهرياً، لم يكن من الصعب الاندماج السطحي في أسواق العمل العربية، ولكن، ولمن هاجسه الرصد الجزئي الدقيق، كانت على وجوهنا سمات استطعنا التعرف عليها، إشارات سرية تمكنّا من التقاطها كصافرة كلاب لا يسمعها أحد غيرنا. أيقنت وقتها أنني جزءٌ من ظاهرةِ جيلٍ يعاني من نقص هويّة، أو فائض هويّة، والمضحك المبكي هو الترادف المضاد في هذا التعبير الذي يجوز فيه الوجهان إلى حدّ الكمال. أينما نظرت، وجدت أن الهوية تتشكل بعوامل يمكن قولبتها في مجموعة انتماءات مختلفة: الانتماء الوطني - الذي اكتشفنا أنه مبني على حدود جغرافية زائفة أعيد رسمها مراراً وتكراراً عبر العصور والأزمان من قبل مهندسي القوى العالمية الكبرى - مع اختلافاتها عبر العصور - لأسباب لا تمت للهوية بصلة، لا يعزل بعضها عن بعض سوى المصالح الجيوسياسية لمن قسّمها. الانتماء الديني - الذي يتمثّل بشلل فكري ودفعٍ استبدادي للمشروعين السياسي والاقتصادي، ونهوض بالسلطة السيادية بعزل تام عن التغذية الروحية والوجدانية التي يجب على هذا النوع من الانتماء أن يُبنى فعليّاً عليها. الانتماء القَبَلي - حلم المستشرقين ودليلهم المطلق لخريطة التقسيم العربية، فيا لسعادتهم عندما يلائمنا القالب القبلي بشكل مثالي وعندما ينجحون في فرزنا، كلٌ لعائلته ولاسمه ولقبيلته ولأجداده، فلا حاجة لهويّة فردية بعد الآن. الانتماء اللغوي - حدث ولا حرج ، فبين السيادة اللغوية الأنجلوساكسونية والفرانكفونية والاستعمار الرأسمالي الاستهلاكي الذي فرض واقعاً لغوياً مؤسفاً على كل من يريد بيع أو شراء أي منتج.. بطّلنا نجمّع. فأي هويّة نختار؟ كما ترون، الخيارات وافرة والله يبارك ويزيد. أنا لا أجزم أن أمّتنا العربية تستفرد بهذه الظاهرة (ألتمسكم عذراً لاستخدامي مصطلحاتٍ مثل "أمّتنا العربية"، فسنوات التلقين العقائدي للقومية العربية ما زالت تطغى نكهتها على هويّتي اللغوية). ولكن ما يميز أقطارنا هو يأسٌ إلى حد الضنى من محض إمكانية التغيير. ما جدوى هذا الوعي دون سيادة أو سلطة أو قدرة على التطوّر؟ وما فائدة تأسيس مبادئ التعليم الحر في شعب يفتقر الحرية الأساسية والقدرة البسيطة على تحديد مصيره؟ ما أراه أمامي بدايات نحت مفهوم جديدٍ لمبدأ الهوية، مختلف تماماً عما عرفه التاريخ من قبل. وفي طيّات هذا العصر، لم يعد للمؤسسات الاجتماعية مثل الزواج والدين وتأسيس العائلة الثقل الوجودي الذي كان لها في عصر مضى. وبما أن تركيب المجتمع العربي قائم على ركائز تستمدّ معنى الحياة الفلسفي من هذه المؤسسات، ومع زيادة الوعي بهشاشة دعائم الانتماء التي بُنِيَتْ عليها هويّاتنا من قبل، لكم أن تروا الفراغ الوجودي الذي اكتسح هذا الجيل. وإذا أضفنا لهذه المعادلة  كون هذه الإدراكات التي أخطّها هنا نتيجة امتياز طبقي واضح لفئة محظوظة من الناس أعتبر نفسي جزءاً منها، لا تشمل أولئك الذين طالت أيادي الحرب والدمار والفقر والجهل حياتهم - وهذه الفئة في تدنٍ مستمر - بصيص الأمل شعاع باهت لا يكاد يُرى. بحثت مراراً عن خاتمة إيجابية أختم بها سلسلة الأفكار هذه، فبالرغم من كل هذا، لست تحت أي وهم أن ما تحدّثت عنه هنا يؤرقني وهنالك من لا فراش لهم ولا أمان لأطفالهم ولا هدوء للياليهم ولا طعام على موائدهم. ولكنني لا أستطيع، بصفاء ضمير، تزيين الواقع الفكري المؤسف بسبب إيماني القاطع والكامل أن التنمية الفكرية لشعبنا هي خلاصنا من الهلاك على جميع المستويات التي نعاني منها، وأن الخلاص الفكري خطوة نحو مستقبل فيه بصيص من الأمل بالرغم من بهتانه ولو عنى ذلك أن أجيال الواجهة التي ستقف في أوائل بزوغ فجر الثورة الفكرية ستعاني أشد أنواع اليأس والاستسلام لواقع ليس له القدرة على مواكبة عجلة التطور كما تعلموها في صروح العم سام التعليمية. هناك يأس وذنب شديدان ينتجان عن كل فكرة تخطر لي من هذا القبيل، فهل أنا محظوظة لقدرتي على تمييز كل هذا؟ وهل أعيش في وهم لكون هذا الواقع لا يعكس الأغلبية الإحصائية العظمى من "شعبي"؟ هذا التضارب الفكري مشلّ. ويبقى محض وجود هذه الصروح هنا في العالم العربي أكبر لغز تاريخي وأضحوكة كونية - فأين نعثر على محول كهربائي لتشغيل هذا الخلاط؟

مقتطقات قصيدة "عواء" لآلن غينسبرغ

ترجمة: سركون بولص

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image