لم يكن انهيار الخلافة العثمانية حدثاً عابراً من أحداث التاريخ الإسلامي والعالمي، وقد مر عبر مراحل في تركيا أولاً، وعبر ردود أفعال في العالم الاسلامي ثانياً، وفي بلاد الهند على وجه الخصوص، حتى بلغ الأمر بالمسلمين الهنود دعوة رئيس الجمهورية التركية مصطفى كمال "أتاتورك" إلى أن يكون خليفة للمسلمين بعد انتهاء تأثير السلالة العثمانية على الاستمرار بهذا المنصب.
المنصب الذي كان يجمع بين الرئاسة الدينية والرئاسة السياسية معاً، فهل كانت تلك المقترحات المقدمة من مسلمي الهند إلى تولي أتاتورك منصب الخلافة مقنعة أو ممكنة الحصول، أم أن رفض أتاتورك لهذا الاقتراح بأن يكون خليفة المسلمين له ما يبرره من وجهة نظر أتاتورك نفسه. بداية لا بد من الإشارة إلى أن مجلس الأمة التركي الكبير "البرلمان التركي" كان على أتم الاستعداد لمبايعة رئيس الجمهورية التركية مصطفى كمال لمنصب الخلافة، وذلك بعد إعلان تأسيس الجمهورية التركية بتاريخ 30 تشرين أول/أكتوبر 1923 وقبل أن يتخذ المجلس نفسه قرار إلغاء الخلافة بتاريخ 24 أذار/مارس 1924. فهذه الأشهر الخمسة كانت مفعمة بدراسة هذه المقترحات، أي أن هذه المقترحات بتولي أتاتورك لمنصب الخلافة لم تأت من خارج تركيا فقط، وإنما وجدت في داخل تركيا أيضاً، وجرى تقديم مقترحات كثيرة وآراء تؤيد بقاء منصب الخلافة مع قيام الجمهورية التركية، سواء بقيت لأحد أفراد الأسرة العثمانية أو بمبايعة مصطفى كمال أتاتورك لهذا المنصب. ولعل معظم أعضاء مجلس الأمة التركي الكبير إن لم يكن جميعهم كانوا سيوافقون على مبايعة أتاتورك تولي منصب الخلافة، وأن يكون هو خليفة المسلمين، لو وافق هو على ذلك.
لقد تولى السيد محمد راسخ أفندي، نائب مدينة أنطاليا، نقل هذا الاقتراح بتولي مصطفى كمال باشا لمنصب الخلافة بعد عودته من الهند، حيث أن جمعية الخلافة في الهند، ومعها جمعية علماء المسلمين ومعهما غير المسلمين بزعامة غاندي كانت جميعها تسعى لبقاء الهند تحت منصب الخلافة العثمانية، مع سعيهم الوطني للاستقلال عن الانتداب البريطاني على الهند. فأجابه أتاتورك: "أنتم من رجال الدين، والخليفة كما تعلمون هو رئيس الدولة، كيف أستطيع قبول اقتراحكم بخصوص الخلافة، ولنفترض أني قبلت، فإن أوامر الخليفة يجب أن تُنفذ، الذين يريدوني أن أكون خليفة هل سينصاعون لأوامري؟ ووفقاً لهذه الحالة فإنه سيكون أمراً مثير للسخرية ولا أساس له". هذا الجواب يشمل رأيا دينياً وليس سياسياً فقط. فأتاتورك يؤمن بأن أوامر الخليفة يجب أن تنفذ، ولكن من يطالبون أتاتورك بتولي هذا المنصب لن يكون بمقدروهم طاعته ولا تنفيذ أوامره وهم خارج تركيا، وهم تحت الاحتلال البريطاني أو الفرنسي أو غيرهما. وهم أيضاً في نفس الوقت يسعون للاستقلال الوطني والقومي، وبذلك ستكون سيادتهم على أنفسهم بعد الاستقلال، وسوف يتعذر عليهم بعد خوض معارك الاستقلال تنفيذ أوامر الخليفة الموجود في تركيا، سواء كان أتاتورك أو خليفة عثمانياً، أي أنّ مفهوم الخلافة والخليفة لم يعد فاعلاً بعد التقسيم والتجزئة والاستقلال، سواء كان في تركيا أو في الهند او في الدول العربية وغيرها.
قبل انهيار الخلافة، كان السيد محمد راسخ أفندي قد ترأس وفد الهلال الأحمر العثماني إلى الهند، هذا الوفد كان سيوفر المساعدة للمهاجرين القادمين إلى تركيا من اليونان وفي نفس الوقت كانوا سيقومون بنشر التصريح الذي وجهه مصطفى كمال باشا إلى جميع المسلمين في الهند، كما جاء في جريدة (hakimiyet i milliye) في عدد: 7 كانون الثاني 1924م.
وفي ٩/شباط من عام 1924م، وصل وفد الهلال الأحمر برئاسة محمد راسخ أفندي إلى بومباي، وشارك راسخ أفندي في الاجتماعات والأنشطة التي أقيمت في الهند من قِبَل الجمعيات الإسلامية فيما يتعلق بموضوع الخلافة، ولقد قام الانجليز في الهند بتكوين رأي عام ضد تركيا في تلك الأيام التي انهارت فيها الخلافة.
وبرأي السيد راسخ أفندي كانت هذه المحاولة والهدف منها هو إعطاء طابع سياسي لجمعية الهلال الأحمر التي تحمل أهدافاً إنسانية بحته، وفي نهاية المطاف عاد الوفد إلى تركيا مع جمع مقدار ضئيل جداً من التمويل أقل بكثير مما كان متأملاً أن يُجمع خلال الزيارة، أو كانت الوفود تجمع من قبل.
السيد محمد راسخ أفندي العائد الى أنقرة مع اقتراح الخلافة كان يتوقع بدون شكّ الرفض من قبل مصطفى كمال باشا "أتاتورك" لهذا الاقتراح، وذلك لأن الفترة التي تواجد فيها في الهند، كان قد تم إرسال برقية من الهند إلى أنقرة بخصوص موضوع الخلافة وقد عُلم أنَّ جوابهُ لم يكن فيها بشكل إيجابي. السيد راسخ كان قد تواجد سابقاً في بعض الفعاليات فيما يخص موضوع الخلافة، في نفس الفترة التي كان مصطفى كمال باشا متواجداً في مدينة إزميت، وفي اليوم الذي تلى 14/كانون الثاني عام 1923 تم توزيع كتيب تحت عنوان "الخلافة الإسلامية والمجلس الوطني الكبير"، بتوقيع نائب مدينة افيون إسماعيل شكرو خوجا. ودخل شكرو أفندي وأصدقاؤهُ المجلس الوطني وهم يرددون "المجلس للخليفة والخليفة للمجلس"، فأرادوا بذلك أن يأخذوا الموافقة بإظهارهم أنَّ المجلس الوطني هو المجلس الاستشاري للخليفة، وبالتالي فإنَّ الخليفة هو رئيس المجلس.
وقد ذُكر في الكُتيب: "أنَّ المجلس الوطني التركي الكبير بتركه القوانين الإسلامية جانباً هو بذلك يوقظ مبدأ البابوية"، أي أن عدم تولي البرلمان إصدار قوانين معتمدة على الشريعة الاسلامية، سيعني فصل الدين عن الشؤون السياسية، وإذا كان البرلمان يمارس الشؤون السياسية، فلا بد من إيجاد مؤسسة أخرى ترعى الشؤون الدينية الروحية، وهذا سيعني باباوية روحية داخل الدولة، وهو الأمر الذي لم يشرع له الإسلام نفسه، ولم يقترحه أحد من العلماء المسلمين.
كيف فقد مفهوم الخلافة والخليفة فاعليته بعد التقسيم والتجزئة والاستقلال، سواء في تركيا أو في الهند او في الدول العربية
يقال بإن إزالة الخلافة لم يكن لها صدى كبير أو ردة فعل في الدول الإسلامية باستثناء مسلمي الهندولذلك تمت الإجابة على هذه الآراء بواسطة كتيبات أخرى كُتبت من قبل محمد راسخ أفندي وأصدقائه. وكُتب في أحدها أنَّ القرارات التي اتخُذت من قبل المجلس الوطني التركي الكبير كانت قد تسببت ببعض التداعيات في الخارج أيضاً للمسلمين وغير المسلمين الذين يعيشون في الهند، وباتخاذهم تركيا مثالاً في الاستقلال قاموا بحركة استقلالية ضد الإنكليز، وذلك بقولهم "الهند للهنود". ولقد قامت الجمعيات الهندية وعلى رأسها "جمعية الخلافة" و"جمعية غاندي" والجمعيات المسلمة بحركات مشتركة نحو الاستقلال، ولكي تستطيع حركة الخلافة من الوصول الى أهدافها كانت تريد وبإصرار بقاء الخلافة في تركيا، وكان الإنكليز أيضاً يؤيدون هذا الرأي، وفي هذه الناحية كان الهنود المسلمون من ذوي الأصول الإنكليزية يساعدون السياسة البريطانية بذلك. إن إزالة الخلافة لم يكن لها صدى كبير أو ردة فعل في الدول الإسلامية باستثناء مسلمي الهند، فلجنة الخلافة الهندية لكي تصل إلى أهدافها السياسية كانت ترى أنَّ الخلافة قوة لا يُمكن التخلي عنها.
ولقد علّق محمد راسخ أفندي في هذا الشأن قائلاً:
"لم يستطيعوا التنازل عن الخلافة وذلك لاحتياجاتهم الخاصة للقب الخلافة".
وفي حالة عدم وجود الخليفة والخلافة فـ"إنَّهم لم يستطيعوا المشاركة في أنشطة وأعمال ذات صلة بلجنة الخلافة، كانوا يتصارعون مع الإنكليز من أجل هذا اللقب، وبهذا اللقب كانوا يستطيعون أن يجمعوا أكثر الهنود بجانبهم".
للوهلة الأولى كان للمسلمين الهنود نقطة مشتركة مع الإنكليز في حركة الاستقلال التي أطلقوها، وعلى الرغم من المظاهر الموحدة فيما يتعلق بالخلافة ولكن هناك تناقضات واختلافات كبيرة بين أهداف كِلا الجانبين على الأسس الموضوعية.
والهدف الرئيسي للبريطانيين هو حفظ سيطرتهم ضد حركات الاستقلال، وقد ولّى البريطانيون اهتماماً كبيراً لقضية الخلافة منذُ القرن التاسع عشر، وبإعطائهم أهمية لموضوع الخلافة كانوا يريدون الاستفادة من الهند. هناك عبارات كثيرة تناقلها العلماء بهذا الشأن، ومنها المتعلقة بمصالح البريطانيين في الهند: "أطفأت بريطانيا شعلة استقلال الهند وهي محاولة الاستفادة من الخلافة". ومن ناحية أخرى فإنَّ بريطانيا كانت تهدف لإيقاف حركة الاستقلال الهندية بتحويل ظاهرة إلغاء الخلافة إلى وسيلة للدعاية السياسية من أجل تبريدها من تركيا التي كان المسلمون الهنود يعتبرونها مثالاً يُحتذى به في قضية الخلافة.
اللجان الموكلة في الهند ومصر قامت بتعيين محمد راسخ أفندي كوكيل لهم من أجل إعلام مصطفى كمال باشا بمطلبهم له بقبول الخلافة، وجاء راسخ أفندي لمصطفى كمال باشا باقتراح مكوّن من أربع مواد. إنَّ الخلافة تعني رئاسة الدولة، ورئاسة كل دولة مسلمة كذلك، ولنفترض أنه قد تم قبول اقتراح الخلافة، فهل كان من الممكن تطبيقه؟ تركيا التي كانت مهتمة باستقلالها الخاص لم يكن بإمكانها التفكير باستقلال الدول الأخرى.
"إن كل شعب داخل حدوده واستناداً على قوته يُشكّل حكومته، ولا يمكن لأي من الدول المعاصرة أن تكون مسؤولة عن أي شخص خارج حدودها وإن فعلت فإنّه منافٍ للحقوق والقوانين التي بين الدول، أنتم أشخاص قمتم بتحصيلٍ عالٍ في ساحاتٍ مختلفة وهل رأيتم في هذه الدنيا قبولاً لهذه النظرية من قبل أي دولة؟"
لقد قامت لجنة الخلافة الهندية بمحاولة يمكن النظر إليها من البعض على أنها محاولة للحيلولة دون انهيار الخلافة، وأرسلت وفدها مع وفد جمعية العلماء الهنود برسالة إلى مصطفى كمال باشا، وحاولوا قبل إيصال رسالتهم أن يقنعوا علماء مصر بها وقد وجدوا تأييداً منهم.
فأصبحت الرسالة المرسلة إلى اتاتورك تمثل علماء الهند وعلماء مصر، وفيها عرض تاريخي إلى مصطفى كمال باشا تحمل الفقرات التالية:
1 ـ المجاهد الأعظم مصطفى كمال باشا يجب عليكم التفضل وقبول الخلافة، وذلك لأجل حمايتنا - نحن الناس الأسرى - من التفرقة.
2 ـ إنَّ الأعداء سوف يستفيدون من تفرقتنا، فإذا تخلَّص الشعب التركي من شرهم فنحن كذلك سنكون نجينا منهم.
3 ـ نحن الهنود لا نستطيع أن نعمل مع المصريين ولا مع الحجازيين ولا حتى السوريين والعراقيين لأنهم مثلُنا أُناس أسرى، وفي هذا الخصوص لا يوجد لهم رأي أو حق في الكلام.
4 ـ وفي حال صدرت أوامركُم فإننا جاهزون للانضمام لأي مؤتمر سيعُقد في تركيا، وعلى الرغم من أنه ليس هناك حاجةٌ لأي مؤتمر، فسوف تكون قرارات المجاهد الأعظم مصطفى كمال باشا مطاعةً. هذه الرسالة تبين مدى الصورة الإيجابية التي كانت لمصطفى كمال اتاتورك لدى علماء المسلمين في الهند ومصر وغيرها، فقد كانوا يعولون عليه أن يجدد منصب الخلافة، التي هي في نظرهم حامية الدين والدنيا معاً.
ولكن أتاتورك لم يسع لأن يأخذ لقباً فخرياً فقط، طالما أنّ أوامره لن تنفذ، وهذا سيدخل المسلمين في تيه وصراع لن يكون مركزاً على حروب التحرير والاستقلال وإنما بين أنفسهم، بينما كانت الرؤى الأخرى تقول إنه يمكن أن يتم بناء الدول الإسلامية المستقلة بإرادة شعوبها أولاً، وتحقيق سيادتها الحرة ثانياً، ومن بعدها بناء التعاون بين تلك الدول بحكم القواسم المشتركة بين شعوبها. والفكرة المهمة في هذه الرسالة أيضاً أنه لا يمكن إعلان الخلافة في الدول التي تقع تحت الاحتلال. وعلماء الهند ومصر كانوا يرون أن بلاد العرب جميعها في ذلك الوقت تحت الاحتلال، سواء في الحجاز أو مصر أو غيرها، وأهلها بمثابة الأسرى بمصطلحهم الديني، والشعوب التي تقع تحت الأسر لا تكون حرة لتقرير مصيرها، ولا تستطيع إعلان أحد من زعمائها خليفة للمسلمين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...