أماني، 35 عاماً، شابة لطيفة بشوشة ماهرة جداً في عملها، متزوجة ولديها طفلان، ترفض التعامل بلغة الإشارة فتَجهد من أجل إخراج الحروف من بين شفتيها.
تعرفتْ إليها قبل أشهر طويلة، حين ذهبت إلى أحد صالونات التجميل، وطلبت أن أقلّم أظافري، فأشار لها صاحب المكان ببدء العمل وإحضار الأدوات، لتبتسم هي بدورها وتشير لي بأنها جيدة جداً، وأنها الأفضل، وهي هكذا بالفعل. بعد دقائق معدودة أتى المسؤول وسألني هل أنا بحاجة إلى مساعدة، ظناً منه أن التواصل متعذر بيني وبينها. أجابته بأن لا مشكلة، وسألته هل لديها هي أزمة معي، وتبادلنا الضحكات. حين أنهت أماني عملها أشارت بـ"هل أعجبتني الجلسة أم لا؟"، فأجبتها بأنها "شاطرة" جداً، وهي اليوم صديقتي.
خلال مدة تعاوننا، تبادلنا أطراف الحديث مراراً حول إن كانت تعاني أية أزمات كونها فاقدة السمع والنطق، وكانت إجابتها دوماً الابتسامة. لاحقاً أطلعتني على قصتها، فقالت إنها ولدت هكذا، وكان الأمر طبيعياً بالنسبة لها حتى بدأت تكبر لتجد أن لديها "نقصاً"، خاصة في فترة الطفولة واللعب مع أطفال مختلفين عنها لكونهم يسمعون ويتحدثون، ولكن مع مرور العمر تقبلت الاختلاف، وبدأت بالبحث عن عمل، حتى استقرت في مهنة تحبها هي "المانيكاريست".
تؤكد أماني أنها تعيش أفضل من غيرها ولا تتعرض لأية مضايقات، تقول ضاحكةً: "وجدت للأمر جانباً مضيئاً لا يشعر به سوى من هم في مثل حالتي، فما أجمل أن تعيشي في هدوء تام، بلا أي ضجيج، ولا تسمعي كلمة تضايقك أو تعكر مزاجك"، وتقول بضحك عن زوجها أنه أكثر الناس سعادةً بها، فهي "لا تثرثر كثيراً".
بالطبع، كانت هذه المحادثة المختصرة من أصعب المحادثات، ولكن مرة بعد مرة وجدت أنه يتعين عليّ أن أصغي بجهد أكبر كي أفهم رسائلها، وأن الأمر ليس بالصعوبة التي كنت أتوقعها، إذ بدا أكثر سهولة في المرات الأخيرة.
قيمة الحياة
إن كُنتم من رواد منطقة المهندسين، وتحديداً ميدان لبنان، ومررتم بأسفل كوبري المحور واضطررتم إلى ركن سيارتكم، فستجدون أن من يساعدك هو أحد أفراد عائلة مكوَّنة من مجموعة رجال في أعمار مختلفة، يتحدثون إليكم بلغة الإشارة، وحين تعودون لأخذ السيارة تجدونهم في استراحة يضحكون معاً أو يأكلون أو يتمتمون بطريقة لا يفهمها أحد سواهم، وكأنهم في عالم خُلق خصيصاً لهم لا يأبهون لضجيج السيارات ولا تشغلهم الأزمات الصغيرة أو الكبيرة، وكأنهم يدركون قيمة الحياة أكثر من الآخرين.العقل والقوة الجسمانية أهم ما يملكه الإنسان
محمود، 50 عاماً، عامل في مركز البحوث الزراعية و"سايس" في الوقت نفسه، يقول إنه متعايش مع فكرة أنه فاقد السمع والنطق، وإنه لا يشعر بأي نقص، فهو لديه عقل وقوة جسمانية، والأهم قلب سليم وبشاشة روح، وهي الأمور التي يرى أنها كافيةً لكي يعيش أي إنسان حياة هانئة. https://youtu.be/6ovyT5aEIJE وعن نظرته للعالم من حوله، وكيف يشعر حياله، وكيف يترجم أصوات الحياة، يقول إنه بعد هذا العمر الذي مر به أصبح يركز على كل شيء من خلال النظر، فبات يرى ويسمع ويتحدث عبر مجموعة ألوان زاهية تلون حياته. علماً أن له أولاداً في مراحل عمرية مختلفة، جميعهم يتحدثون ويسمعون ويدرسون، وهم أمله في الحياة وبسببهم ولأجلهم يشعر أنه أسعد شخص في العالم. يقول: "لا أشعر بأية أزمة لدى التواصل بيني وبين أي شخص أكان مثلي أو مختلفاً عني، فالمسألة بسيطة، والأهم هو العقل، وليس التحدث أو الاستماع، فالعقل قادر على حل كل مشكلة تحصل بين أفراد المجتمع".كما لو تحدث أجنبي مع عربي
شريف، 26 عاماً، لا يعمل، تخرج في الثانوية العامة، وكان يأمل استكمال تعليمه الجامعي ليلتحق بوظيفة لائقة، إلا أنه لم يتمكن من ذلك بسبب بعض الأزمات المالية التي لها صلة بمسألة التعليم، ولكنه قبل ذلك كانت له تجارب عملية عديدة، آخرها عمله كموظف استقبال في إحدى شركات. يقول: "هذا العمل كان لطيفاً جداً، ولم أصادف أية سخافات طوال مدة عملي التي استمرت عامين، فالأمر كان بسيطاً، يتمحور حول إرسال إيميلات أو حفظ أوراق أو استقبال معلومات مكتوبة من العاملين، لكنه دون طموحي". "أتعامل مع البشر من خلال الورقة والقلم". هذا ما قاله عن آلية التعامل مع العالم الخارجي. سألته: "طيب ولو اللي بتكتبله ده مبيعرفش يقرا ولا يكتب بتعمل إيه؟"، فرد ضاحكاً: "بشوف غيره، مش كل الناس أميّة"، مؤكداً أنه لا يجد غضاضة في من لا يفهمون لغته. فالطبيعي أن البشر جميعهم مختلفون، وإنْ لم يفهمه شخص، فهناك العشرات الذين يفهمونه بلغة الإشارة أو الكتابة، وأردف: "الأجنبي لو اتكلم مع حد عربي مبيفهموش بعض،عادي يعني؟". حكى شريف أن لديه صديقاً يعمل نجاراً ومتقناً عمله جيداً وطوال صداقتهما لم يرَه متذمراً، وأن أصدقاءهما المشتركين لا ينزعجون من عجزهما عن التحدث أو السمع، فهما يريان أن العجز الحقيقي هو الاستسلام أو الاكتئاب أو أن ينظرا لنفسيهما بأنهما ناقصان."معك أسماء وهذه قائمة الطلبات أخبريني بطلبك"
إذا كنتم من مُحبي تناول وجبة أو ساندوتش من المطعم الشهير "كنتاكي"، فحتماً ستُصادفون في أحد الأفرع عاملين فاقدين السمع والنطق، يستقبلونكم بابتسامة، ويدلونكم على "البورد" الذي يفيد بأن هذا الفرع مخصص لفاقدي النطق وضعاف السمع. كل ما عليكم فعله هو أن تشيروا إلى طلبكم ليأتيكم في الحال، تماماً كما فعلت أنا مع الفتاة الجميلة أسماء، حين هممت بالتحدث لطلب وجبتي، أشارت إلى بطاقتها الوظيفية المكتوب عليها اسمها، ثم إلى "البورد"، وكأنها تقول لي "معك أسماء، وهذه قائمة الطلبات، ما هو طلبك؟".مقهى لفاقدي السمع والنطق: عالمهم وحدهم
برغم أن الهدف الأساسي من كتابة هذا المقال هو الدعوة إلى الاندماج الكامل للصُم والبُكم في الحياة عموماً، وسوق العمل خصوصاً، وعدم إشعارهم بأنهم قلة متقوقعة في عالمهم، فإننا لدى البحث وجدنا ظاهرة لافتة هي عبارة عن مقهى في محافظة الإسكندرية المصرية، كل رواده من ضعاف السمع والنطق، يتحدثون بلغة الإشارة، وقد تعلم عمال المقهى اللغة نفسها بمرور الوقت. وفق أخر إحصاء للأمم المتحدة، فإن عدد فاقدي السمع والنطق في مصر يبلغ 7 ملايين، يُعاملون على أنهم قلة تمثل 5 ٪ من مجموع السكان.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع