شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
يوم تعرّفت إلى قدم ربيع

يوم تعرّفت إلى قدم ربيع

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 3 مايو 201812:41 م
يُفتح باب حديدي أسود كبير، ليكون أول ما تقع عليه عيناي شاب يسير بقدم واحدة وعكاز، ثم تظهر عشرات الخيام في المكان الملآن بالمئات من الرجال والنساء والأطفال والعجائز. إنه مركز إيواء عدرا- معهد الكهرباء، المخصص للمدنيين الخارجين من غوطة دمشق الشرقية. جواز السفر الذي نحمله للعبور إلى هذا العالم، هو ورقة رسمية تجيز لنا الدخول كي نلتقي طفلاً يدعى ربيع حتى نركّب له قدماً اصطناعية عوضاً عن قدمه التي بُترت نتيجة قذيفة أصابت منزله قبل عامين، وتسببت أيضاً بوفاة أخيه وبتر قدم والده. ذهب أحد الشبان المرافقين لنا للبحث عن ربيع في بيته (خيمته)، فاستغللتُ الوقت للتجول في جوار النقطة التي كنا نقف فيها، وسرعان ما تجمع حولنا عدد من الأطفال. تبرع محمد بأداء أغنية تتحدث عن جدته العجوز التي تجاوز عمرها المئة عام، لكنها لم تزل قادرة على الرقص، وانخرط بقية الأطفال في ضحك هستيري. درويش لا يعرف عمره. يقارن نفسه ببقية الأطفال لدى وقوفه إلى جانبهم، وعندما يسمعهم يحددون أعمارهم يختار رقماً ويقوله لي "عمري خمسة. يمكن تسعة، لا أعرف". فتاة ذات شعر قصير جداً وابتسامة ساحرة تقترب مني، وعندما أسألها عن اسمها تجيب بأنها لا تعرف. ويستمر الضحك. يلمح محمد داخل السيارة مجموعة من الأحذية التي ستكون حصة ربيع واحداً منها بعد تركيب القدم، فيسألني: "هل توزعون الأحذية؟". حياة محمد وغيره من سكان هذا المركز تحوّلت لحالة من الانتظار. انتظار الطعام. انتظار التوزيع. وأيضاً انتظار الخروج. ومع تجمهر الأطفال حولي، ومظهري الغريب عن المركز، يبدأ عدد من السكان بالاقتراب مني، وتفحصي، ثم طرح الأسئلة. "ماذا توزعون؟". "ماذا عن الأيتام؟". "أنا بحاجة لعمل. هل تعرفين أين أجد عملاً؟ يمكنني تنظيف المنازل، لا مشكلة. أنا فقط بحاجة للخروج والعمل". يعيش اليوم في مركز إيواء عدرا نحو 1500 شخص، وهو عدد أقل مما كان عليه حين بدأ نزوح سكان الغوطة الشرقية إلى دمشق ومحيطها منذ حوالى شهرين عندما اشتدت وتيرة المعارك في المنطقة. لا شك أن أي غريب قادم من العالم الخارجي "الطبيعي" إلى هذا المركز، هو من يملك كل الإجابات، ولديه جميع الحلول السحرية لسكان ذلك العالم الداخلي. الغريب مثلي، ذو الوجه الممتلئ، الذي لم يعرف الشحوب يوماً. الغريب مثلي الذي لم يضطر لحلق شعره نتيجة انتشار القمل، ولم يضطر يوماً لارتداء الملابس نفسها لأسابيع متتالية، أو لتشارك ملابس متشابهة مع العشرات غيره، وإنما يستطيع كل يوم بعد الاستيقاظ واحتساء قهوة الصباح، اختيار ملابسه من الخزانة على مهل. ومع يقيني بأن الأسئلة تلك لن تنتهي، وقدوم ربيع، دخلنا النقطة الطبية. لم يكن من السهل على ربيع أن يصدق أنه سيتخلص أخيراً من قدمه الاصطناعية القديمة التي لا تناسب مقاسه، والتي اضطر لاستخدامها عندما لم تترك له الحرب خياراً آخر. مشى مطأطئ الرأس وهو يبحث عن القدم الجديدة، وجلس على حافة كرسي بلاستيكي بانتظار أن يبدأ الفنّي المختص عمله. كانت عيناه تلمعان دون أن تجد أية ابتسامة طريقها لشفتيه. أمسك الفنّي القدم القديمة ووضعها جانباً، ورفع بنطال ربيع كاشفاً عن قدمه النحيلة المبتورة من تحت الركبة، في حين استلقت تلك القديمة المتسخة على الأرض، واستمر ربيع بطرف عينه في التحديق إليها. وعندما بدأتْ إجراءات تركيب القدم الجديدة، اختفى البريق من عينيه، وانخفض رأسه دون أن يتفوه بكلمة. اعتقدت للحظة بأن عليّ أن أكسر بعض الجليد بين ربيع وبيننا، فبدأت ألقي بعض الأسئلة التي عرفت بعد لحظات مدى سذاجتها: "كم عمرك؟". "لا أعرف". "هل أنت سعيد؟ يلا بدنا نشوفك عم تركض ونلعب طابة سوا"... حينذاك عرفت أن عليّ الخروج، وأن أكثر ما يمكن إيلام ربيع في هذه اللحظات هو رؤيتي، أنا الغريبة، لذلك الجزء الذي يعتبره مصدر اختلافه عن غيره. لعله عرف أيضاً في قرارة نفسه أنني ما كنت لآتي اليوم وأهتم به وأطرح عليه كل تلك الأسئلة الغبية، لو كانت لديه قدم طبيعية. خرجت من الغرفة، وتأملت المكان حولي قليلاً. خيام بعضها صغير جداً، وُضعت في ساحة ترابية أو على جانبي الطريق وعلى الأرصفة. حبال ممتدة في ما بينها لنشر الثياب المغسٰلة. هنالك مبنى إلى اليسار يطلق عليه اسم "الفندق"، يبدو أنه مخصص لتقديم بعض الخدمات. غرفة صغيرة لإحدى المنظمات العاملة في المركز، علقت عليها ورقة كتب فيها اسم المنظمة، وفي الأسفل: "Please consider the environment before printing this email. قبل أن تطبع هذه الرسالة فكّر في البيئة حولك".

وجوه في كل مكان يكسوها الغبار والبؤس

عندما انتهت عملية تركيب القدم، حاول ربيع المشي. ركل بقدمه الجديدة الشاب الواقف إلى جانبه، وعاد البريق لعينيه من دون أن تجد الابتسامة طريقها لشفتيه إلى الآن. وبعد التأكد من أن كل شيء على ما يرام، خرج ربيع من الغرفة. ثم رأيته يعود إلى بيته (خيمته) برفقة والده الذي يسير على عكاز، وأخته الصغيرة ذات الشعر الأشعث. كانت القدم القديمة مستلقية في كيس بلاستيكي أبيض متسخ يحمله الأب، وهي تتأرجح مع كل خطوة يخطوها ربيع بقدمه الجديدة. المشهد الأخير في المركز كان مشابهاً للأول، إنما بشكل عكسي: أقود السيارة ببطء شديد وأحاول اختزان أكبر قدر من التفاصيل. عند المرور قرب خيمة يجلس بجانبها محمد وأصدقاؤه، بدأوا بالتصفيق والتلويح لنا، نحن الغرباء العائدين لحياتنا الطبيعية، والذين سيتركون ربيع، ومحمد، ودرويش، والطفلة التي لا تعرف اسمها، فرائس انتظار جديد.
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image