شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
الفواتير التي يتوجب عليك دفعها بعد الخروج من السجن

الفواتير التي يتوجب عليك دفعها بعد الخروج من السجن

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 14 مارس 201806:13 م

فاتورة الذكريات التي لن تعود

سقوط باقي أسنان ابنتك اللبنية، أعياد ميلادها التي تغيبت عنها والهدايا التي كان يتوجب عليك إحضارها. الاحتفال برأس السنة وإقلاق راحة الجيران بكم المفرقعات الهائل التي اعتدتما إشعالها، تحولها الواضح من طفلة إلى مراهقة، أول عبارات الغزل التي ستسمعها من زميلها في صف الدراسة، خطواتها المتعثرة في تأليف مقطوعة موسيقية أو في محاولة تلحين بعض كلماتك التي كتبتها في السجن. الكم الهائل من البطاطا المقلية واستخدامها الكاتشاب حتى على الكعك الحلو، أول المشاجرات حول التأخر في السهر، أول استخدام لمزيل الشعر والديودوران، هذه الذكريات تشبه غيوما راحلة باتجاه الشرق، سيعود ما يشبهها في قادم الأيام، غيوم لها نفس الكثافة ونفس رائحة المطر الخفيف لكنها ليست هي أبداً.

فاتورة المفقودات الأخرى

القصائد التي كان من الممكن كتابتها تحت قصف حياة مثقلة, اللعنات التي من الممكن صبّها عند بدء أي جولة من جولات الحرب. الشهقات والآهات، النزهات الطويلة والبكاء بطريقة متحضرة علناً، لا باتجاه الجدار وأنت تخفي ملامحك، صفحات جرائد لمدة واحد وثلاثين شهراً، الملاحق الثقافية المحلية والعربية المحشوة بأشياء فظيعة، التفاعل مع البيانات المرهقة للناطقين الرسميين باسم فصائل ما. الصراخ بفم مفتوح على اتساعه وقبضة مرفوعة في الهواء عند تحقيق فريق برشلونة لأي انتصار، أكواب القهوة التي من الممكن كسرها أو رميها في منتصف الصالون إثباتاً لحقك في التعب. وأستطيع أن أضيف إلى لائحة المفقودات أيضاً: بلوزة أديداس تحمل ألوان فريق ألمانيا استبدلتها بسيجارة في الطريق إلى السجن، صندل فاخر أرغمني الشرطي على خلعه وجعلني أستقبل العالم حافياً، من جديد. 

فاتورة الهاويات

الأشخاص الذين ساروا بمحض إرادتهم إلى حتفهم اليومي المحتوم، نازحو المدن المهدمة، الذين يودعون لديك قصائدهم وذكرياتهم، أسماء أولادهم الجدد وأكياس مؤونتهم الشتوية. تخرج من السجن إلى ذكرياتك القديمة التي لم تعد تهمّ أحداً، إلى طرائفك القديمة التي لم تعد مضحكة بعد الآن، تتفقد أماكن طفولتك ومراهقتك وشبابك. تجد النساء اللواتي أحببت قد انسحقن تحت أكوام الأسى وخسائر العيش اليومي. أصدقاؤك ما عادوا مناسبين ليزيلوا الأسى عن ملامحك أو ليفرحوك، اختاروا أغان أخرى يرقصون عليها غير أغانيك المفضلة، وعبارات أخرى يستخدمونها في مطلع الكلام، لا يطلبون منك غناء تلك الأغنية التي تجيد أداءها، ولا رواية القصص الطريفة التي حصلت لك معهم، الهاوية امتصت أوقاتكم المشتركة، لم يبق إلا ذكريات السجن التي لا تضحك أحد.

فاتورة المفاجآت التي لن تحدث

غبت ثلاث سنوات تقريباً، هذا يعني كحولا أقل، وبالتالي ابتعد احتمال موتي بتشمّع الكبد لمدة ثلاث سنوات، أو بجرعة زائدة مثلاً، أو حتى بحادث سيارة يقودها سائق متهور، إذ لا شيء من هذا في السجن. لا تستطيع أن تمسك المسدس وتداعب طرفه بلسانك أو اختيار أعلى بناء في المحافظة وتجريب الطيران بيدين مضمومتين. وأيضاً لا مجال لأن تموت بارتفاع الكوليسترول لديك، ولا احتمالات البدانة، كنا نأكل وجبة وحيدة في اليوم، لا دسم، لا شحوم، كان الاحتمال الوحيد الموافق هو الموت قهراً، أو من الانتظار على باب الزيارات. لا احتمال أن تغرم بفتاة أو أن تكاتب امرأة، أن تأخذك امرأة نصف ثملة إلى سريرها أو أن تراقصك أجمل فتاة في الحفلة، أو أن يعترف لك صديق قديم بأنه يحبك وأنه يكتشف ميولاً غريبة لديه. المفاجآت اختفت، ما بقي هو الحساب البائس للحياة، والذي تنتهي منه بخمس دقائق.

فاتورة الأمكنة

اختفت البيوت العتيقة من مدينتي، حلّ مكانها وحوش بيتونية مسخوطة. الشوارع الضيقة أصلا ضاقت أكثر، أمكنتي المفضلة، زوايا القبلات السروقة، شجرات الكينا المتهدلة لثقل أغصانها، أكياس الرمل المزروعة على الحواجز اهترأت دون أن تؤدي المهمة التي زرعت لأجلها، نبتت من بين الثقوب حشائش غامضة مبتهجة، وزرع البعض نباتات منزلية صغيرة بين ثنايا المتاريس. أخرج من زقاق كان يفضي إلى حديقة صغيرة فصار يفضي إلى صندوق حديدي يداوم فيه حرّاس الأحلام، الدرج الذي كان ينتهي بمقاعد بيتونية للعشاق الصغار صار ينتهي إلى أسئلة لا تنتهي: من أنت وماذا تفعل هذه برفقتك؟؟ الأمكنة تموت لا بموت أصحابها فحسب، بل بتهجير الذكريات من رؤوسهم، بقتل أحلامهم، وسوريا الآن ليست إلا قبراً للذكريات المقتولة.

فاتورة الأشياء الخفيفة/النثريات

قالت لي أم علاء، صاحبة المتجر: عليك ثمن ثلاث علب تبغ وولاعة، ليسوا مهمين، لكن جرّة الغاز التي أخذتها من ثلاث سنوات لم تدفع ثمنها بعد. أتفاجئ بديون قديمة علي لا أذكرها حتى، ثمن فناجين قهوة، أكياس أرز وصباغات أحذية، جوارب نسائية، مناديل ورقية، زجاجات مياه غازية، فواتير هاتف وكهرباء، فواتير لوقت لم أصرفه حتى، لأحاديث لم أخض فيها. فاتورة سنواتي الثلاث أدفعها مجدداً كأنها لم تنقض بعد، كأن من صنعها أعجبته لدرجة أنه أعاد صنعها مرات ومرات، منظفات وشامبو للشعر الجاف—اللعنة، حتى أنه غير مناسب لشعري—خبز لم أتلقمه، شاي لم أرشفه، فواتير حياة لم أعشها حتى. صورة المقالة لوحة للفنان السوري ميلاد أمين

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image