أيقظت الحروب لدي شعوراً بعدم الاستقرار، جعلني لا أستغرب أحوال البلدان التي أزورها. الأمر كان مختلفاً عند ذهابي للبوسنة برفقة بعض الصحافيين العراقيين، كنت أبحث عن شيء آخر غير الجمال الطبيعي والبيئة النظيفة والتمازج الإثني والديني.
قبيل السفر وخلاله كان سؤال واخد يرافقني: بماذا تتشابه المدن التي تحصل فيها الحروب؟
ما سمعته طوال أسبوع من الصحافيين والناشطين البوسنيين ممن عاصروا الحرب الأهلية وتحدثوا عن تجربتهم خلالها، كان كافياً لأكتشف أن الوضع لا يختلف كثيراً عما حدث في العراق، وعما كان يحدث في الموصل من صراع للمكونات وبعده حرب ما يسمى بتنظيم “داعش”، وكأن تجار الحروب هم أنفسهم في كل العالم.
باتت خيوط التشابه أكثر وضوحاً في مدينة موستار التي تبعد 120كلم عن سراييفو العاصمة.
وهي واحدة من أكبر مدن البوسنة، وقد حوّلها تنوعها الإثني والديني إلى ساحة لأشرس المعارك بين “البوشناق” المسلمين والكروات والصرب.
وقوفي فوق (ستاري موست) أو الجسر القديم، المزدحم بالسياح ممن حضروا مهرجان القفز السنوي، بعث في نفسي بعض الراحة ومنحني لحظات من التأمل العميق، أنا القادمة من الموصل، مدينة القلق المستمر والحروب والأزمات المتوالية.
وسألت نفسي كيف لهذا الجسر البالغ طوله 30 متراً، وعرضه 4، وارتفاعه عن النهر 24، كيف له أن يتحول اليوم إلى معلم سياحي مهم بعدما دُمر خلال الحرب بأكثر من ستين قذيفة من قبل القوات الكرواتية، ما أدى لشل الحركة بين جانبي المدينة الشرقي والغربي، وما أشبه هذا بما حدث لجسور الموصل وقطّع أوصال جانبيها.
نحو أربع ساعات قضيتها في شوارع موستار، زرت فيها سوقها القديم الرائع، حيث النساء يمارسن الحرف اليدوية بمهارة فائفة ويبعن بضائعهن للسائحين في ظل أوضاع اقتصادية سيئة.
ذكر لنا بعض الصحافيين هناك، أن مدينتهم كانت من أهم المراكز الصناعية، لأنها تصنع مختلف السلع حتى الأسلحة والطائرات، لكن تم تدمير أكثر من 80٪ من هذه المصانع، مما دفع الناس إلى هجرها.
علماً أن ذلك الوضع الاقتصادي المتردي أدى إلى انخفاض معدلات الزواج والإنجاب. ففي أسبوع كامل لم أرَ أكثر من عشرة أطفال خلال ساعات تجوالي الطويلة في الشوارع والأسواق.
صور إيجابية تصنعها النساء في البوسنة
كان لاهتمامي بقضايا المرأة الأولوية لدي، وهذا ما حفزني على الاطلاع على مساهمة النساء في صنع السلام وإعادة الاستقرار في البوسنة. ولفتتني مسألة العدالة الانتقالية عبر الاقتصاص من الجناة وتعويض النساء الناجيات، خاصة أن الحرب الأهلية تسببت باغتصاب 30 ألف امرأة، وخلّفت نحو 700 مقبرة جماعية.
هذا ما ذكره لنا البروفيسور غوران سيميتش، أحد الشهود الذين تابعوا الحرب الأهلية بين البوسنة والهرسك (1992-1995).
لا يُخفى أن الأمر البشع نفسه حصل في العراق، إذ إن الحرب مع تنظيم داعش خلّفت المئات من النساء العراقيات المغتصبات والمختطفات، ناهيك بالأعداد الكبيرة من اللواتي تزوجن من عناصر التنظيم، أو دُربن على حمل السلاح أو هُرّبن إلى الخارج.
في مركز الصحافيين في مدينة موستار، قابلت (آمنة بوبوفاك)، المرأة الشقراء ذات القامة الطويلة والجسد الممشوق. لم يكن وجهها جميلاً فحسب، بل كانت تمتلك ملامح تجعل من يراها يهابها، وفي الوقت نفسه، يقع بحب صفاتها إذا عرفها عن قرب.
آمنة هي ناشطة وسيدة أعمال وصحافية، ومهندسة أكملت دراستها عام 1995.
اجتمعنا بها نحو ساعة كشفت خلالها ذكرياتها في الحرب، وكيف أنها تمكنت وهي شابة صغيرة من تأسيس إذاعة في مدينة موستار كي تتصدى ومن معها للتطرف في وقت اختار غيرها من العاملين في مجال الإعلام، التخندق مع الأحزاب المتصارعة طائفياً والحضّ على العنف والقتل.
قالت آمنة إنها تؤمن بأن الاعلام هو الأداة الأكثر تأثيراً على الناس في المجالين الاجتماعي والسياسي.
مما أثار أعجابي أيضاً أن المؤسسات الصحافية والإعلامية في البوسنة، تديرها نساء بنجاح ملحوظ.
فصحيفة OSLOBODJENJE المستقلة، هي أكبر الصحف في البوسنة، تصدر منذ خمسة وسبعين عاماً، وتترأس تحريرها (فيلدانا سيليمبيغوفيتش)، التي عملت صحافية أيام الحرب في خطوط الجبهة الأمامية لنقل الأخبار، وتتصدى اليوم للفساد وتحارب أخطاء السياسيين، وهي مطلوبة قضائياً بــ105 قضايا رفعت ضدها.
قالت فيلدانا بنبرة ثابتة : "همّنا خدمة البوسنة ونحلم بوطن أفضل مما هو الآن، نريد إيقاف هجرة الشباب من خلال توفير اقتصاد أفضل والتصدي للفساد".
[caption id="attachment_140877" align="alignnone" width="503"] فيلدانا سيليمبيغوفيتش[/caption] تساءلت لماذا الوسط الصحافي في البوسنة تديره النساء؟الجواب البديهي هو لأن الكثير من الرجال قد قُتلوا.
لم يكفيني الجواب ولم يقنعني لأن نسبة الرجال تعادل النساء وفق الاحصاءات.
ما رأيته بوضوح هو أن لدى النساء في البوسنة الشجاعة الكبيرة للتصدي للصعوبات وتسلم أكثر المناصب حيوية لصنع حياة جديدة ترفض العنف.
تساءلت هل هذا ما ينقصنا في الموصل اليوم؟ ستجيب الأيام عن هذا التساؤل.لدى النساء في البوسنة الشجاعة للتصدي للصعوبات وتسلم مناصب حيوية لصنع حياة جديدة. تساءلت هل هذا ما ينقصنا في الموصل اليوم؟
ما سمعته ممن عاصروا الحرب الأهلية في البوسنة كان كافياً لأكتشف أن الوضع لا يختلف عن العراق، وكأن تجار الحروب هم أنفسهم
في ليلتنا الأخيرة في سراييفو العاصمة، دعتنا السيدة بوركا، الأمينة العامة لرابطة الصحافيين التي تضم 750 منتسباً، للعشاء في مطعم على هيئة سرداب جميل، ذكرني بمنازل الموصل القديمة.
تشاركت هي وزميلاتها في الغناء، مستعيدات شريط الذكريات، واغرورقت عيونهن بالدموع وهن ينشدن أغنيات شعبية وأخرى وطنية على أمل عودة الوحدة لبلدهن من جديد.
بوركا سيدة صربية مسيحية، قُتل زوجها على يد المسلمين البوشناق، لكن هذا لم يمنعها من تبنّي فتاة مسلمة، هي الآن تدرس في الجامعة.
من خلال بوركا، وسيدات البوسنة وتجاربهن وحكايات أرضهن، لمستُ غياب العدالة الانتقالية، أو نقصانها، وكأنها بُترت قبل أن تتم.
الجناة ممن ساهموا في قتل الناس وصنع المقابر الجماعية واغتصاب النساء لم يزل معظمهم أحراراً، والحكومة لم توفّر التعويض للمواطنين. هذا الإهمال مشابه لما يحصل في مناطق النزاع المسلح في العراق.
لكن نساء البوسنة يحاولن صنع حياة أفضل، وهن مستمرات في صنع السلام المجتمعي عبر عملهن في النشاط المدني وفي الاقتصاد والإعلام. وكون المجال الأخير يصدّر الصور النمطية ويثير الفتن ويشجع خطاب الكراهية، قررن التصدي لذلك كله من دون هوادة.
المرأة هناك أيضاً تعاني من مشاكل معقدة، بينها غياب مشاركتها في القرار السياسي، فحتى القرارات التي تتعلق بها يتولّى الرجال تشريعها.
أما نحن نساء الموصل، فما زلنا غير قادرات على أن نصنع مشروعاً إعلامياً يتبنى المرأة في نينوى، في ظل نظرة ذكورية ضيقة، ناهيك بعدم قدرة المرأة على المشاركة السياسية الفعالة.
تقول ميشيل باشيليهم، رئيسة تشيلي والمسؤولة عن المساواة بين الجنسين في الأمم المتحدة: "أينما وجد نزاع، فالمرأة يجب أن تكون جزءاً من الحل".
علماً أن كل تجارب العالم تقول إن المرأة يجب أن تكون جزءاً أساسياً من الحل، وإنه من الضروري وضع نهاية للعُرف القائل إن النساء يصنعن السلام، والرجال هم المفاوضون الفعليون.
العرف الذي يضع الرجال لوحدهم على لأن إقصاء المرأة عن صنع القرارات السياسية يجعل عملية إعادة الاستقرار مستحيلة، ويبقي الحروب مشتعلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.