لم يكن لأي منا أن يتوقع الخراب الذي حصل ويحصل كل يوم، كل ثانية، كل قذيفة تسقط من جهة ما، كل بيان يصدر ويعيد الحرب إلى نقطة بدئها أو مفاوضات تعيد تعريف شجرة الزيتون الهرمة الوحيدة الباقية في حقل محروق.
كلا ...لم نكن نظن أن شعباً مرّت عليه السبعينيات والثمانينيات بظلها القاتم الثقيل، ثم التسعينيات والألفية بشبهة انفتاح وإزالة للغمامة السوداء التي أرخى ظلالها أعمام ظالمون وأخوال قساة،
بعد أن دفنا الآباء والجدود وقرأنا على أرواحهم فاتحة مرتبكة لكنها تخفي فرحا مضمرا, لم نكن لنظن أننا سنقع، بأعين مفتوحة، فريسة لحرب جائرة.
أتحدث هنا عن المفاجآت السارّة والمفاجآت غير السارّة.
بداية يحق لنا أن نتفاجأ، أن نندهش، نحن من عالم معزول ومعقّم، حدائقنا تفتقد للنباتات الغريبة، موائدنا لا تحفل بالطعوم المغايرة لما اعتدنا عليه، لا نكاد نحسن تسمية مواليدنا الجدد، فنختصرهم بعدّة أسماء: علي أو عمر، خالد أو حسن، أسد أو عصفور.
لا نملك مخيلة أوسع من موروث فقير أصلا، فقير ومجني عليه، فوجئنا بالحرب مثلما فوجئنا بالسلم خلال الألفية، فوجئنا بمدفع جهنم كما فوجئنا بإزالة قانون الطوارئ، بالشعارات الطائفية كما بالقصف العشوائي.
أن تفتح الباب صباحا لتستمتع بدفء الشمس، وتدنو منك على مهل، سلحفاتك التي كنت قد فقدتها لثلاث سنوات، وكانت هنا، قربك، في الغرفة المجاورة، تحت أكوام الكتب والمفروشات المكسورة والأجهزة الكهربائية المعطلة، وتدبرت أمر طعامها بطريقة ما، طيلة مدة غيابها.
وكنت دوما تتساءل عما حصل لها وتلوم نفسك على هذا الإهمال، وتتمنى لو أن للسلاحف القدرة على الغناء، أو أن للسلاحف أجنحة بحيث تطير عائدة إليك، ثم تراها هنا، قرب كرسيك الوحيد، تستمتع مثلك بالكسل والشمس والحرية.
حتى في الحرب، هناك متسع دوما للمفاجآت السارّة، شرط أن تبقى حيا لتفاجئ.
فنحن أيضاً نعرف أن الحياة الجميلة تحدث على مقربة، وكل ما يلزمنا لتذوّق طعمها الرائع، أن نحتفظ بلسان في الفم وقلب في الصدر، أو بلسان في القلب وفم في الصدر، ونحتاج أن نبقى أحياء، رغما عن المفاجآت غير السارّة.
صورة المقالة لوحة للفنان السوري الأرمني، كيفورك مراد.
"نحتاج أن نبقى أحياء، رغما عن المفاجآت غير السارّة"
"شبح أبيض، شبح أبيض ومبتهج، يركض في الشارع نصف المدمّر، فرحاً" عن المفاجآت السارة زمن الحربعشنا سنينا تحت غطاء اللامبالاة حتى جاء وقت الاهتمام فأُخذنا إلى حيث تؤخذ الحملان الذبيحة، وارتمينا على المذبح، موالين ومعارضين ولامبالين، نثغو من هول المفاجأة لكننا لا نركض، نئنّ لكن لا نغير مواطئ أقدامنا. لكنها مفاجأة غير سارّة، هذه الحرب اللعينة، غير سارّة بتاتا، لم لا نتحدّث عن المفاجآت السارّة، عن رسائل غامضة تأتيك في الليل، من امرأة بعيدة، في مدينة أبعد، تخبرك فيها أن يديك حين تكتبان تصنعان حبلا من دفء طويل يمتد بين مدينتيكما، وأن اتصالا عميقا يحصل. أن تفاحة حمراء وغضة تسقط الآن في حضنها عندما تفكر بمراسلتك، ثم تذهب أنت في خيالك وتحب هذا التواطؤ العميق الذي يزدهر فجأة في حياتك المجدبة، ثم يخطر لك أن يكون الأمر برمته خدعة ما، أن تكون تلك المرأة والدة صديقك التي تعاني من الوحدة، أو صاحبة المتجر الضجرة التي أرهقتها حسابات الديون المعدومة، أو ربما صديقك الذي رغب بصنع مزاح ثقيل فحسب، فتكتئب ثمّ تقرر أن تزورها في مدينتها تلك المسماة على اسم طائر أحمق لا يطير ولا يبيض، بل يكتفي بالغناء في مواسم التزاوج، فيتناسل من خوفه لا غير. وتذهب وتنتظر مرورها من مكان عملها وأنت تتوقع امرأة دميمة أو ذكرا ماكرا، ضحكا هازئا أو عبارة: كلّ مقلب وأنت بخير، ونقضا لمخاوفك العقلانية، تجدها مذهلة فتطير عائدا إلى وكرك مرعوبا، ثم تعود وتبتسم للمفاجأة السارّة. أو أن تقرر أن تقتنص قبلة من صديقتك بالرغم من اتفاق مسبق على ضرورة استبعاد هذا الأمر حاليا، ثم بعد الحاحك توافق على تبادل قبل سريعة، ممسوحة مسحا وعلى عجل، تحت شجرة الكينا، في أحد زواريب حي المشروع السابع، أو على مدخل بيتها. وما أن يصل الأمر لهذا الحد حتى تسقط قذيفة في الحي المجاور ولشدة خوفها ينزلق لسانها في فمك ككرزة مهروسة. وتتشبث بك من الرعب كأن يديها صنعتا من حديد ساخن، فتحظى بأجمل قبلة وعناق حصلت عليهما منذ سنوات، رغم الدويّ الذي يطن في رأسك والغبار الذي غطاك، فجعلك تبدو كشبح أبيض، شبح أبيض ومبتهج، يركض في الشارع نصف المدمّر، فرحا. أتحدّث عن المفاجآت السارّة التي تحصل رغما عن المفاجآت غير السارّة التي تحصل أيضاً، بنفس الوقت. أن تكتشف في الخامسة صباحا أن ثمة طعاما في الثلاجة عمره أشهر مثلا، لكنه مازال صالحا للاستخدام، تماما في اللحظة التي قرّرت فيها أن تغامر بسير طويل تحت مطر كانون الثاني، بحثا عن مطعم يفتح أبوابه في ساعات الصباح الأولى. أو أن تتنازل عن كبريائك الفارغ وتطرق باب والدتك لتطلب بخجل وحذر, رغيف خبز.
حتى في الحرب، نحن نعرف بأن الحياة الجميلة تحدث على مقربة
أن تفتح الباب صباحا لتستمتع بدفء الشمس، وتدنو منك على مهل، سلحفاتك التي كنت قد فقدتها لثلاث سنوات، وكانت هنا، قربك، في الغرفة المجاورة، تحت أكوام الكتب والمفروشات المكسورة والأجهزة الكهربائية المعطلة، وتدبرت أمر طعامها بطريقة ما، طيلة مدة غيابها.
وكنت دوما تتساءل عما حصل لها وتلوم نفسك على هذا الإهمال، وتتمنى لو أن للسلاحف القدرة على الغناء، أو أن للسلاحف أجنحة بحيث تطير عائدة إليك، ثم تراها هنا، قرب كرسيك الوحيد، تستمتع مثلك بالكسل والشمس والحرية.
حتى في الحرب، هناك متسع دوما للمفاجآت السارّة، شرط أن تبقى حيا لتفاجئ.
فنحن أيضاً نعرف أن الحياة الجميلة تحدث على مقربة، وكل ما يلزمنا لتذوّق طعمها الرائع، أن نحتفظ بلسان في الفم وقلب في الصدر، أو بلسان في القلب وفم في الصدر، ونحتاج أن نبقى أحياء، رغما عن المفاجآت غير السارّة.
صورة المقالة لوحة للفنان السوري الأرمني، كيفورك مراد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...