منذ المشاهد الأولى، يفصح "عن الآباء والأبناء" Of Fathers and Sons، الذي نال جائزة لجنة التحكيم الكبرى لأفضل وثائقي أجنبي في "مهرجان صندانس السينمائي" 2018، عن توجّهه ومساره.
سريعاً، يعد جديد السينمائي السوري طلال ديركي (من مواليد دمشق، 1977) بحمولة غنيّة ونادرة، لا تتيحها سوى وثائقيّات الصنف الفاخر مثل هذا.
مجموعة من الصبيّة يلعبون كرة القدم في ساحة ترابيّة. نحن في ريف إدلب السوريّة، التي تشهد «العصر الذهبي للسلفيّة الجهاديّة»، تحت سلطة تنظيم القاعدة - «جبهة النصرة» (الاسم السابق لما يُعرَف اليوم بـ «هيئة تحرير الشام»).
طلال المستقر في برلين منذ عام 2014، يودّع عائلته. يصل إحدى أخطر بقاع العالم، مقدّماً نفسه على أنّه مصوّر حربيّ متحمّس للجهاد والجهاديّين. هذا يضمن له أمرين: الاندماج في المحيط والحصول على ثقة أفراده، ونوع من الحصانة ضدّ الخطف والتصفية.
ها هو يحلّ ضيفاً على الجهاديّ "أبو أسامة". أربعينيّ متشبّع بالفكر السلفيّ، حتى أنّه سمّى بعض صبيانه الثمانية تيّمناً بكبار القادة في حركة «طالبان»، مثل «أسامة» (نسبةً إلى أسامة بن لادن) و«أيمن» (نسبةً إلى أيمن الظواهري).
طلال يحدّد بوصلته منذ البداية، راصداً هذه العائلة على مدى أكثر من عامين ونصف العام، من خلال التركيز على الأب وأسامة وأيمن. ما هي يوميات هؤلاء، الذين لا نسمع إلا عن معاركهم ومفخخاتهم في نشرات الأخبار؟ كيف ينمو الأطفال في مناخ كهذا؟ ماذا عن اللايف ستايل الحقيقي في "أرض الخلافة" الموعودة؟ هكذا، تبرز أهميّة اللقطة الأولى، والافتتاح السابق لعنوان الشريط.
سينمائي الخطر
التسلّل إلى مناطق ساخنة، والعيش تحت وطأة الخطر الدائم، ليسا جديدين على ديركي. فعلها في فيلمه الوثائقي الشهير "العودة إلى حمص" (Return to Homs, 2013)، المتوّج بالجائزة نفسها في "صندانس 2014"، كما في باريس وجنيف وزغرب وبرشلونة ونيويورك وبروكسل وسول... إذ واكب تطوّر الحراك في مدينة حمص من خلال شخصيتين: منشد التظاهرات الشهير عبد الباسط الساروت، والناشط الإعلامي أسامة الحمصي. ذلك يُضاف إلى «تمثيلية» المصوّر المجاهد، الذي يصلّي مع «الإخوة» دائماً، ليمنح التجربة حسّاً مغامراتياً مورّطاً للمتفرّج في كلّ ثانية. السينمائي هنا «ماكر» بعض الشيء. «حاوي» يخفي بعض الخدع عن أبطاله، وليس عن جمهوره. الرائد التسجيلي السوري الراحل عمر أميرلاي (1944 – 2011) لجأ إلى "خبث" مماثل مراراً في أعماله، ليسير على نهجه طلال ديركي وزياد كلثوم وآخرون.الحضور صوتاً وصورةً
إذاً، صانع الشريط هو في عداد شخصياته. جزء من بنية سرده حضوراً وتعليقاً صوتياً. تماماً كما في الوثائقيين "العودة إلى حمص" و"بطل البحار" (Hero of All Seas, 2010)، الذي تناول هجرة الأكراد غير الشرعيّة إلى أوروبا، في أفلمة سوريّة مبكّرة لما سيصبح ظاهرة على مستوى الكوكب فيما بعد. "قصيدة إلى ليسبوس" (Ode to Lesvos, 2016) يشكّل استثناءً في هذا الشأن. إنّه تحيّة حبّ رقيقة إلى قرية يونانيّة صغيرة، قام أهلها بمساعدة كثير من اللاجئين، ما منح ثلاثة منهم ترشيحاً لجائزة نوبل للسلام. https://vimeo.com/208666684 طلال صوّره من دون ظهور في الصورة أو تعليق عليها. عادةً، ينساب صوته مع الصورة، شارحاً ما لم يصوّر، أو مختصراً خلفيات، أو ممهّداً لقادم. نبرة هادئة، متأنيّة، تفسح مجالاً للتفكّر والإحالة، مع لمحة شعريّة لا تبدو غريبةً على صاحب ديوان «مقبرة عائليّة» (دار الفتاة للطباعة والنشر والتوزيع 2003).معايشة ولا أحكام
هكذا، يبني "عن الآباء والأبناء" مناخاته شيئاً فشيئاً. يتشرّب أسامة وأيمن تربيةً أيديولوجية صارمةً، قائمة على التلقين والحشو، وتحقير المرأة، وعدم الاهتمام بالعلم الدنيوي. الألعاب تغذّي نزعة العنف داخل الصغار، وصولاً إلى تعليمهم صنع القنابل، ثمّ إرسالهم إلى معسكرات الإعداد العقائدي والعسكري. يوم تلو آخر، تُسحَق الطفولة. تختفي الابتسامة العفوية. تذبل روح التمرّد، ليبرز المقاتل السائر في طريق الموت. بالتوازي، نتعرّف أكثر إلى أبي أسامة. «رجل عائلة» دمث وعطوف. متحسّر على دمار بلده، ولكن ضمن فهمه الخاص المؤمن بقيام الخلافة "العادلة" كحلّ سحريّ وحيد. كذلك نفهم خلفياته وجذور غضبه. نرافقه في ساعات "الرباط" على الجبهة. نشاهد قدرته على تفكيك الألغام واستخراج الـTNT منها، من أجل بيعه أو تفخيخ صناديق مساعدات الأمم المتحدة "انتقاماً لأطفال حمص". عموماً، نستمع إلى آراء الجهاديّين في شؤون عامّة مثل معارضة الخارج، ومفاهيم فقهية مثل الصوفيّة والعداء مع تنظيم الدولة الإسلاميّة، ونظريات نهاية العالم. بذكاء ورفعة، لا يطلق الشريط أحكاماً على أبطاله. صحيح أنّه يضعهم في سياق كابوسيّ منذ البداية، إذ تقول عينا ديركي الكثير في لحظات معيّنة، لكنّه لا ينزلق إلى التقييم. يسير على شعرة رفيعة، متعاملاً مع أبي أسامة كـ"بطل مضاد" من لحم ودم، وأطفاله كضحايا يستحقون التعاطف. يحتفظ بفرادة المعايشة. يرصد تطوّر الشخوص، وتحوّلاتهم بين دفء العائلة ووحشية الحرب. العدسة لا تصوّر فقط. إنّها "تسجّل" حياة كاملة. تواكب تشكّل وعي أفراد. هذا من جوهر السينما التسجيليّة. التلوّن، واللاأحادية، وعدم اليقين، ورفض التسليم بمطلق الأمور، من جماليات سينما ديركي. يقول في "العودة إلى حمص": "لا قدرة لي على إطلاق الأحكام. هل كان ما فعلناه صواباً؟"لا تصنيف سياسي
بيد أنّ "عن الآباء والأبناء" ليس بوارد حسابات التصنيف السياسي بين موالاة ومعارضة. يسمو فوق مستنقع التشنّج والاستقطاب. محاولات تأطيره لا تقدّم شيئاً سوى التقليل من شأنه. إنّه سينما صرفة. وثيقة تسجيلية نادرة. دراسة سوسيولوجية – أنثروبولوجية جادّة. رحلة داخل النفس البشريّة. تأمّل في سايكولوجيا صناعة الظلام. مانيفستو صارخ عن جانب مرعب من وطن لم يعد يشبه نفسه في كثير من الأماكن. تطوّر طبيعي في فيلموغرافيا صاحبه. كأنّنا أمام استكمال مختلف لـ «العودة إلى حمص»، الذي انتهى ببوادر ميل الساروت إلى نوع من التشدد، ما يأخذنا إلى مفهوم «البطل» في سينما طلال ديركي.الأبطال يصنعون أنفسهم
"أبو يشار" في "بطل البحار" يبدو خارجاً من أساطير الإغريق. الوحيد الذي عبر سباحةً من تركيا إلى اليونان، وبقي على قيد الحياة. بطل «ملحميّ» في الماضي، باقٍ على أمل الانتظار في الحاضر. العمل البطولي تم. ما ظلّ أمامنا تبعات تستحضر الفائت، وتترقب الآتي، مقسّمة على أربعة فصول: «السجن»، و«الهجرة»، و«المنفى»، و«الحنين». "الساروت" بطل "شعبي"، تقوده العفوية والحماسة وحلاوة الروح. نشهد صعوده وانكساراته وخسائره، ثمّ حمله السلاح، وانسياقه في درب الدم. أبو أسامة "بطل مضاد" Anti-Hero منذ البداية. يتلهّف للإجهاز على "عدوّه" بقنّاصته، فيما يتنفّس الساروت الصعداء لأنّه لم يضطر لإطلاق النّار على «خصمه». هذا فرق جوهريّ لا يمكن إغفاله. بين الملحمي والشعبي والمضاد، يتشكّل عالم ديركي السينمائي وسماته المشتركة، وهو ما يحصل دائماً مع الصنّاع ذوي الرؤية والدراية، سواءً عن قصد أو من دونه. مثلاً، هل تعمّد طلال إنهاء فيلميه الأخيرين بسيّارة تحمل البطل في الخلف نحو مصير مجهول؟ كلّ من الشاب «باسط» والطفل «أسامة»، ذاهب في مسار لم يكن خياره أساساً. هذه سينما الخطاب الفردي، الذي يخاطب المتفرّج دون قرارات مسبقة، أو تدخّل قسري من الصانع، كما تفعل سينما البروباغندا عادةً. عبر البطل/ الفرد، يمكن تصدير ما يمسّ الكتلة. من خلال الذاتي الخاص، يجوز الانفتاح على الجمعي العام. "الأبطال يصنعون أنفسهم ولا نصنعهم" كما كتب ديركي يوماً.إنّه سينما صرفة. وثيقة تسجيلية نادرة. دراسة سوسيولوجية – أنثروبولوجية جادّة: "غن الآباء والأبناء"
مشروع "سوريا والحرب"
"عن الآباء والأبناء" هو الجزء الثاني من مشروع "سوريا والحرب"، الذي بدأه ديركي بـ«العودة إلى حمص». قمّة نضج جديدة، لرجل يزداد تمرّساً وتجرّداً من الحسابات غير السينمائية بمرور الوقت. معايشة أكثر. تعليق أقل. ترك الصورة تتكلّم من دون توجيه أو تلقين (سينماتوغرافيا: قحطان حسّون، موسيقى: ك. س. إلياس). لا كتابة على الشاشة، أو تعريف فائض عن الحاجة (توليف: آن فابيني، في التعاون الثاني بعد «العودة إلى حمص»). يكفي أن نذكر الفصل الرابع من «بطل البحار» الزاخر بالتقريرية، لندرك كم ارتقى هذا السينمائي السوريّ نحو لغة رفيعة تمسّ شغاف القلب، وتخترق النخاع الشوكي بلا هوادة. ماذا عن الجزء الثالث؟ يبدو أنّه سيكون روائياً طويلاً.طلال ديركي
من مواليد دمشق 1977. خرّيج «معهد ستافراكوس العالي لفنون السينما والتلفزيون» 2003 في أثينا، بفيلمه الروائي «مرحباً دمشق وداعاً دمشق» Hello Damascus goodbye Damascus (2003)، محققاً المرتبة الأولى على دفعته، وهو أوّل أجنبي يحقق ذلك منذ تأسيس المعهد قبل نحو نصف قرن. عمل مخرجاً مساعداً، ومخرجاً لبرامج تلفزيونيّة، ومصوّراً لشبكات أخبار مثل رويترز وCNN. يمكن تقسيم سينماه (4 أفلام وثائقية، فيلمان روائيان) إلى ما قبل الحرب السوريّة وما بعدها. في المرحلة الأولى، كثير من البحث والتجريب في علاقة الصورة بالحلم والقرار. سؤال البقاء أو الهجرة حاضر بقوّة. بعد الحرب، سجّل انطلاقةً جديدةً وناضجةً في مسيرته. رسّخ نفسه اسماً صعباً في السينما التسجيليّة على المستوى الدولي، حتى أنّه صار يشارك في الإنتاج، ويدعم تجارب آخرين. فيلموغرافيا: "مرحباً دمشق وداعاً دمشق" Hello Damascus goodbye Damascus) 2003 ،12) – روائي قصير 16 ملم (إخراج وسيناريو). "رتل كامل من الأشجار" A Whole Line of Trees) 2005 ،9 – المؤسسة العامة للسينما) – روائي قصير (إخراج وسيناريو). "بطل البحار" Hero of All Seas) 2010 ،28) – وثائقي (إخراج وكتابة). "العودة إلى حمص" Return to Homs) 2013 ،94) – وثائقي (إخراج وكتابة). "قصيدة إلى ليسبوس" Ode to Lesvos) 2016 ،12) – وثائقي (إخراج ومنتج مشارك). "عن الآباء والأبناء" Of Fathers and Sons) 2017 ،99) – وثائقي (إخراج ومنتج مشارك).رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون