شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"أن تعرف ما لا يعرفه حتى الخبراء": لماذا تستمر "نظرية المؤامرة" بنجاح كبير؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الخميس 1 فبراير 201804:09 م

حين أخبره الطبيب بحالته الصحيّة الصعبة ومدّه بلائحة من الأدوية مشدداً على ضرورة البدء بتناولها فوراً، كان هو في عالم آخر.

لم يسمع كلّ ما قيل له، فهو قد رضخ لإصرار عائلته بزيارة الطبيب لأنه ملّ من محاولة إقناعهم بعدم جدواها، أما الدواء فلن يتناوله.

"لا هدف لشركات الدواء سوى مصّ دمائنا. يخدعوننا بأسماء وتركيبات ضررها أكبر من نفعها، يخبئون عنا مضار الأدوية ويكدّسون الأموال في جيوبهم"، يفكر هازئاً بكل من حوله.

كان قد قرأ رسالة وصلته على "واتساب" عن شركة تصنع الدواء من الطحين، فيما صمّ آذانه عن كل الحجج العلمية وعن أخبار الجهد البحثي الهائل الذي يصرفه العلماء حول العالم لتطوير التركيبات العلاجيّة واختبارها.

لا يشعر بمسؤولية التحقق من مصدر الرسالة الإلكترونية، فما فيها يطابق "نظرياته المؤامراتيّة"، وهذا يكفي. معلوماته عن شركات الأدوية لا يملكها أهم العاملين في الحقل الطبي حول العالم.

وهذا ليس مجال براعته الطبية الوحيد، فهو يحسم بأن أمراض وبائية عديدة كالإيدز تمّ تصنيعها لإبادة الشعوب أو لخدمة شركات الدواء.

إستراتيجياً، ينافس الخبراء في معرفة ما يخططه الغرب لضرب المسلمين، وهو واع، "عكس جاره الغبي" (حسب قوله)، إلى أن تنظيم داعش، وقبله القاعدة، فبركته أمريكا، وأن أحداث 11 سبتمبر مدبّرة، وأن المحرقة اليهودية لم تحدث.

ولا يتوقف هنا، فكل خبراء المناخ إذا اجتمعوا لن يتمكنوا من إقناعه أن الاحتباس الحراري حقيقة أو مسار طبيعي للممارسات البشرية المؤذية. يرى حيناً أن العلماء يخبئون معلومات خطيرة، وحيناً آخر أن في الأمر مبالغة تدعيها جهات لتصفية حساباتها مع جهات أخرى.

أما ملعبه المفضّل فلا يتغيّر: في كل نقاش يجمع فيه الأصدقاء أو العائلة، يفرد جناحيه متحدثاً بثقة العالِم بالكواليس والخبايا عن "الماسونيين الذين يسيطرون على العالم".

هو ليس شخصاً واحداً، بل مثله كثر لا يزالون، على اختلاف ثقافاتهم ومستوياتهم الاجتماعية والاقتصادية، يؤمنون بـ"نظريّة المؤامرة" بعد مرور أكثر من قرن على بدء استخدامها كمصطلح ونظرية.

"لا شيء يحدث بالصدفة، لا شيء يكون كما يظهر، كل شيء مرتبط ببعضه".

لم يستطع علماء النفس الجزم بعد بأسباب صمود معتقدات مماثلة، كما لم يتمكنوا بعد من تحديد الخصال المشتركة التي تميز الأشخاص الذين يؤمنون بنظريات مماثلة.

ازدياد التعقيد في الحياة البشرية، تسارع وتيرة الأحداث، تصاعد الاضطرابات، هي عوامل خلقت أرضاً خصبة لتلك النظرية، لا بل سهلت اختراقها لمختلف الطبقات الاجتماعية والاقتصادية، وجعلتها تجارة رائجة في السياسة والفن والاقتصاد.

قد يصح ما يُحكى عن تلاعب إحدى الشركات بتمرير دواء دون آخر، أو تآمر سلطة على مواطنيها أو حتى حجب معلومات خطيرة من أجل هدف معيّن، إذا ما قيس كل منها كحالة منفصلة هدفها المنفعة السياسية أو الاقتصادية. وليس ذلك محور الحديث هنا.

المشكلة تكمن في تحول كل تلك النظريات إلى منظومة قناعات يجري إسقاطها على كل ما يحيط بالإنسان من أدق تفاصيل يومياته، وصولاً إلى اقتناعه بتلفيق وكالة ناسا لخبر الهبوط على سطح القمر.

قناعات، مرتكزة على فكرة "الشر الساعي لتدميرنا"، تزدحم في قالب نمطي مبسّط يصلح لتفسير كل شيء تقريباً.

والأهم هو اقتناع أصحاب "نظرية المؤامرة" بأن المتآمرين أشخاص ما فوق الطبيعة، يتميزون بمهارات عالية بحيث لا يتركون أي أدلة وراءهم. ومؤامراتهم، للمناسبة، لا تشبه تلك الواقعية التي تحصل في سياق استخباراتي أو عسكري طبيعي، بل هي عصية على الاكتشاف، إلا أمام أولئك "المتنورين" الذين يتفوقون على البشر بدورهم في معرفة ما يدور في ذلك العالم الخفي.

قد يكون التعريف الأقرب لنظرية المؤامرة هو ما قدمه مايكل باركون في كتابه "ثقافة المؤامرة: رؤى أبوكاليبسية من أميركا المعاصرة" (A Culture of Conspiracy: Apocalyptic Visions in Contemporary America) متحدثاً عن ثلاث نقاط مهمة تشكل قناعة لدى مروّج نظرية المؤامرة وهي: لا شيء يحدث بالصدفة، لا شيء يكون كما يظهر، وكل شيء مرتبط ببعضه.

ليس جديداً الكلام عن استغلال الدول والحكومات لتلك النظرية لحشد شعوبها وتصفية خصومها، وصفحات الإنترنت تزدحم بمطولات حول تلك النظرية وتأثيرها في تطور المجتمعات وحياتها.

في مقابل ذلك، نجد أبحاثاً عديدة تنتقد تلك النظرية وتنقضها. مع ذلك، يقف باحثون كثر حائرين أمام صمود "المؤامرة" وانتشارها بين شرائح المجتمعات المختلفة.

"أنا أكثر تميزاً من أن أُخدع" من هنا يبدأ الإيمان بنظريات المؤامرة
قد لا يعتبر الاقتناع بأن المغني إلفيس بريسلي قد زيّف خبر وفاته خطيراً، لكن نظريات مؤامرة أخرى لها عواقب وخيمة...

لماذا تستمر "نظرية المؤامرة" إذاً... وبنجاح كبير؟

يُطرح السؤال ومعه رغبة بمعرفة سبب الانسياق وراءها رغم معرفتنا بأن النظرية بحدّ نفسها أقرب إلى المؤامرة.

تقول عالمة النفس كارين دوغلاس، في تقرير لـBBC Future، إن "الجميع يجنح، بشكل أو بآخر، للارتياب في الحكومة وإساءة الظن بها، حيث من الطبيعي أن نشك في المجموعات أو الأشخاص الذين لا نفهمهم".

وتصف دوغلاس الشك هنا بأنه "أحد أساليب التكيف لكي يحمي الشخص نفسه من الأذى".

وبحسب التقرير، تكشف دراسات أخرى أن نظريات المؤامرة تساعد الناس على استيعاب الأحداث التي تقع في العالم من حولهم، و"خاصة عندما يشعرون بفقدان السيطرة على حياتهم أو بالقلق أو بالعجز عن حماية احتياجاتهم إذا تعرضت للتهديد".

وفي السياق، يقول أستاذ علم النفس ستيفان ليونداوسكي إن نظرية وجود "زمرة من الأقوياء" وراء أحداث العنف العشوائية، كالقتل الجماعي، قد تطمئن البعض وتريحهم نفسياً. لماذا؟ "لأن الناس متعطشون للإجابات".

كما تلعب التنشئة دوراً في جعل الأشخاص أكثر استعداداً لتأييد نظرية المؤامرة، بحسب دراسة نشرتها دورية "الشخصية والاختلافات الفردية" خلال العام الحالي وفيها أن "الأفراد الذين لم ينجح أحد آبائهم أو كلاهما في إقامة علاقة عاطفية إيجابية وسليمة معهم منذ الصغر، يلجأون إلى تضخيم المخاطر".

ويُعدّ ذلك، حسب الدراسة، أحد أساليب التعايش مع الواقع. ومع أن نظرية المؤامرة لا تبدد المخاوف أكثر مما تزيد الشعور بالعجز، إلا أنها تجعل هؤلاء أكثر استعداد لتصديق المزيد من نظريات المؤامرة.

وعدا عن الخوف والتنشئة، يأتي عامل النرجسية، الفطري بطبيعته.

في العام 1984، كتب العالم البريطاني مايكل بيليغ، حسب تقرير BBC Future، قائلاً إن "نظرية المؤامرة تتيح فرصة للوصول إلى معلومات خفية ومهمة وبديهية، بحيث تجعل من يرددها خبيراً، لأنه تحصّل على معلومات لا يعرفها أحد غيره، حتى من يطلق عليهم خبراء".

يرتبط الأمر، كما وصفته دراسة نشرتها "المجلة الأوروبية لعلم النفس الاجتماعي"، بنظرية "أنا أكثر تميزاً من أن أُخدع"، المبنية على الحاجة الذاتية إلى التفرد، وظهور الشخص بأنه منشق "عن السرب ومتبني للاستثناء في مواجهة الرواية الرسمية".

وفي دراسة أخرى، نشرتها "المجلة البريطانية لعلم النفس"، تمت الإشارة إلى وجود ارتباط بين نظريات المؤامرة وصفة "الميكافيللية" عند بعض الأشخاص الذين يتعمدون التلاعب بالآخرين واستغلالهم لمصلحة ذاتية، وإلى وجود ترابط كذلك بين النرجسية كصفة عامة أو فردية وبين تأييد نظريات المؤامرة.

يُضاف لذلك، ما يمكن تسميته في علم النفس بـ"التحيّز التأكيدي" (Confirmation Bias)، والذي يفسّر انسياق كثر وراء نظرية المؤامرة برغم وجود مبررات علمية لنسفها.

يشرح هذا المبدأ كيف يميل الناس إلى جمع بيانات تؤكد قناعاتهم، وتجاهل بيانات أخرى تناقضها. ولمزيد من النظريات حول أسباب فشل الحقائق في تغيير المعتقدات، يمكن العودة إلى مقال رصيف22 هنا.

عواقب تافهة... وأخرى وخيمة

قد لا يعتبر الاقتناع بأن المغني إلفيس بريسلي قد زيّف خبر وفاته خطيراً، لكن نظريات مؤامرة أخرى لها عواقب وخيمة.

"يشعر الأشخاص الذين يرددون نظريات المؤامرة أنهم منفصلون عن المشهد السياسي، ومن ثم تقل فرص مشاركتهم في التصويت. وبالمثل، لن يهتم المشككون في التغير المناخي بالحد من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، أو تأييد السياسيين الذين يعدون بالحد من انبعاثات الكربون".

ويتخوف العلماء من ازدياد صعوبة محو الأكاذيب، فالمحاولات السابقة لدحض نظرية المؤامرة أتت بنتائج عكسية، فـ"كلما زاد تمسك المرء بنظرية المؤامرة، اهتزت ثقته في الحقائق العلمية. وربما يشعر أن الشخص الذي يحاول إقناعه متورط في المؤامرة"، بحسب التقرير البريطاني.

وبحسب عالم الفيزياء ديفيد غرايمز، في كلامه مع الصحافية ميليسا هوغنبوم، أصبح "كل شخص يعيش في عالمه الخاص، إذ يردد الأفكار والمعتقدات التي توافق أهواءه فيما يسمى بغرف الصدى"، وذلك على الرغم من محاولات الباحثين والصحافيين حول العالم التحذير من الأخبار المزيفة ومحاسبة الآخرين على نشرها.

في كل الأحوال، ما زالت نظرية المؤامرة محل نشاط بحثي واسع، لا سيما وأن البشر يفقدون أكثر فأكثر ثقتهم في المنظومة العالمية كفكرة ونظام.

في هذا العالم بات "الاستثناء" يساوي "القاعدة"، ولم تعد الحجة المقنعة سلاحاً في وجه "نظرية المؤامرة"، فللأخيرة حججها المقنعة كذلك.

ما يمكن التسليم به، هو أن تلك النظرية أو النظريات هي تجسيد فاضح لمشكلة العالم المعاصر الذي بات أكثر تعقيداً من الاقتناع بأن مرضاً ما يقتل لمجرد كونه مرضاً قاتلاً، لا أكثر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image