مع أن ثقافة التاكسي ليست منتشرة في دول الخليج بشكل عام، حيث يمتلك غالبية المواطنين سياراتهم الخاصة، فإن سيارات الأجرة متوافرة للأجانب الزائرين والقاطنين، وكذلك للحالات الطارئة لمن يملك سيارة خاصة. والكويت ليست استثناء حيث تتوافر سيارات الأجرة أمام بوابات المطار والفنادق، وتشح في أماكن أخرى، وقد تقفون لأكثر من ثلاثة أرباع الساعة حتى تمر سيارة أجرة لتقلّكم إلى وجهتكم.
يفرض القانون في الكويت على أن يعرض سائق التاكسي صورة من بطاقته المدنية، ورخصة القيادة، وتصريح العمل كسائق أجرة، بالإضافة لإجازة تسيير مركبة، كما يفرض القانون أن يستخدم السائق العداد لتحديد أجرته اعتماداً على المسافة والوقت الذي تستغرقه الرحلة، إلا أن ذلك ليس هو المتعارف عليه.
فقد يشغل السائق العداد ويتفق معكم على مبلغ معين، وقد يطلب منكم مبلغاً عندما تبلغون وجهتكم وتكتشفون أن العداد لم يكن يعمل خلال الرحلة، فالقصة حظ ونصيب.
السائق الذي أقلنا من المطار، كان يرتدي الزي الخليجي، لم يتحدث طوال الطريق، وعندما وصلنا، طلب الأجر، في الوقت الذي كنا ننزل فيه الحقائب من السيارة، فطلبت منه أن يمهلنا، فقال إنه مستعجل، فأعطيته المبلغ وطلبت رصيداً. أخذ ورقة رصيد، وقع عليها، وأعطاني إياها، قال لي قومي بتعبئتها، وغادر.
سامح الذي يبلغ من العمل 42 عاماً، مصري الجنسية، يعمل في هذه المهنة منذ أكثر من عشر سنوات، بدأ حديثه عن الازدحام عند مجمع الأفنيوز التجاري، وهو وجهة كل الكويتيين: ”يزدحم الافنيوز خصوصاً في عطلة نهاية الأسبوع، ولكن ذلك لا يعني أنه لا يكون مزدحماً بقية أيام الأسبوع“.
كما شرح لنا، نحن رواد التاكسي، بأن الأفنيوز هو من أكبر المجمعات في الكويت كما أن ملّاكه يعملون على توسعته في الوقت الحاضر.
كلفت الرحلة من السالمية إلى الأفنيوز ثلاثة دنانير (10 دولارات) بالاتفاق المسبق، ولكن في طريق العودة، لم نتفق مع السائق المصري عنبر البالغ من العمر 54 عاماً، فطلب 7 دنانير(23 دولاراً) ثمناً للرحلة، وعندما جادلناه بأن هذا ضعف المبلغ الذي كلفنا للذهاب للأفنيوز، قال إنه يقف هناك منذ وقت طويل، وكأنه يجب نحن أن ندفع ثمن هذا الوقوف الذي لم يكن لنا دخل فيه.
دفعنا لعنبر وغادر، قال لنا مواطن كويتي، أما أن تجبروه على تشغيل العداد أو تتفقوا معه على مبلغ معين قبل الركوب، وإلا فهذا ما ستواجهونه.
شهيد الإسلام
أوقفنا تاكسي بالقرب من الفندق، طلبنا أن يوصلنا لمطعم قريب نسبياً، بدأ السائق البنغلاديشي البالغ من العمر 48 عاماً الحديث عن زحمة السير، فقلت له هو أمر عادي في ليلة الإجازة، فقال بعربيته المكسرة: ”فلسطين تُذبح ونحن هنا من مجمع لآخر ومن مطعم لآخر، المسلمون تشغلهم الدنيا بينما مطلوب منا أن نحارب لنعيد فلسطين“. كان فتح الموضوع مفاجئاً بالنسبة لنا إذ انطلق من زحمة السير إلى الدفاع عن فلسطين، رغم أن التوقيت غير مفاجىء فهو يأتي بعد فترة قصيرة من إعلان الرئيس الأمريكي نقل مقر السفارة الأمريكية للقدس. واصل شهيد الإسلام، هكذا كان اسم السائق البنغلاديشي، وهو أمر يفسر بعض الشيء تهكمه على الناس في البلد التي يعيش فيها بأنهم متخاذلون، ثم انطلق إلى انتقاد الجيوش: ”22 دولة عربية، والعشرات من الدول الإسلامية ولا جيش انطلق للدفاع عن فلسطين، هم جاهزون فقط للحروب في ما بينهم، ولو وجهت هذه الدول سلاحها نحو اسرائيل لاحتاج الأمر إلى ساعة من الزمن للقضاء عليها“. لم يكن شهيد الإسلام منتقداً فقط، ولكنه كان يوجد الحلول أيضاً، فقال:” ليس بالضرورة أن تأكل عائلتي اللحم والفواكه، بإمكاني إطعامهم العدس والتبرع ببقية المبلغ للجيوش العربية لمهاجمة إسرائيل والدفاع عن فلسطين، ولكن ليست هناك إرادة، فالطماع يريد أن يركب أحدث السيارات وشراء البيوت الفارهة وتجربة أحدث المطاعم دون الالتفات لفلسطين“. كان حديث شهيد الإسلام مليء بالحماسة، قلت له:” أنت تعيش هنا وهذا الكلام قد يؤذيك“. صرخ بأنه لا يخاف من أحد، لا يخاف إلا من الله، بلغنا وجهتنا، أعطانا شهيد الإسلام رقم هاتفه وقال: ”لن تلقوا سيارة أجرة في هذا المكان عندما تنتهون“. بعد انتهائنا من وجبة العشاء، كان شهيد الإسلام على حق، وقفنا 10 دقائق ولم تمر سيارة أجرة، فاتصلنا به، فعاد ليقلنا، طلبنا منه تشغيل العداد، فاستشاط غضباً: ”هل تعتقدين أنني سأسرقكم، أنا لست كسائقي التاكسي الـ…… (من جنسية معينة) الذين يخفون العداد أو يطلبون مبالغ غير معقولة، سآخذ منكم نفس المبلغ الذي جلبتكم به"، فوافقنا. قلت له:” كيف تتحدث عن سائقي التاكسي الـ…… (من جنسية معينة)، ونحن منهم؟“ كنت أمزح معه، فرفع صوته وسبابته: ”أنا لا أخاف من أحد، لا أخاف إلا من الله، وهذه هي الحقيقة، نحن نعرفهم، نعمل معهم منذ سنوات طويلة“. سألت شهيد الإسلام:” كم عاماً لبثت؟ “. فأخبرني أنه يعمل في الكويت منذ أكثر من 20 عاماً، وأنه كان يرسل المال لعائلته، فقد ترك زوجته في بنغلاديش لتخدم أمه، وعندما توفيت والدته، جاء بزوجته وأطفاله ليعيشوا معه في الكويت، فسألته كم ولداً لديه، فرد: ”ما شاء الله“. يخاف الناس الذين لديهم مال أو ملك أو أولاد كثر من الحسد فلا يفصحون عن العدد، أو المبلغ، فأعدت السؤال عليه، فقال: ”خمس بنات وأربعة صبيان“ فرددت: ”ما شالله“ حتى يرتاح بأنني لن أحسده، وراح يتكلم عن فضل الأم، وكيف أنه ترك زوجته لتخدمها، وكيف أن الإسلام فضلها على الأب، حتى بلغنا وجهتنا، شكرناه على الدرس الإسلامي وغادرنا.نظل غرباء
في اليوم التالي، أوقفنا سيارة أجرة يقودها محمد من بنغلاديش (43 عاماً)، طلبنا منه توصيلنا لمكان معين، فقال مستغربا: ”لا أعرف هذا المكان رغم أنني أعمل في هذا البلد منذ أكثر من 20 عاماً“، فرددت عليه: ”لا بد أنك أصبحت تحمل الجنسية الكويتية إذاً“. رد ساخراً: ”نموت ونحيا هنا ولا نحمل الجنسية، الجنسية للكويتيين الأصل فقط“، ثم راح يتحدث عن حبه للكويت، وكيف أنه استطاع إعالة عائلته وتأمين حياة جيدة لهم، والفضل في ذلك يعود إلى الكويت. أوقفنا سائق سيارة أجرة آخر، لمشوار آخر في وقت ما بعد منتصف الليل، فكان ميزان من بنغلاديش، الذي أكمل منذ أقل من ساعة عامة الثالث والأربعين، فعندما نظرت إلى شاشة الهويات والرخص التي يعلقها كل سائق أجرة في سيارته، لاحظت إن التاريخ تغير ليصبح عيد ميلاد ”ميزان“ فباركت له، فاستغرب: ”كيف عرفتِ؟". قلت له "هويتك ورخصتك أمامي ولاحظت أن اليوم عيد ميلادك“، ففرح كثيراً وشكرنا على التهنئة. لاحظت أن غالبية سائقي التاكسي إما مصريون أو بنغلاديشيون، ولكن ذلك لا يمنع من وجود أردنيين وكويتيين وغيرهم يعملون في هذه المهنة، فقد أقلنا مشرف من بنغلاديش البالغ من العمر 36 عاماً، وكانت تلاوة القرآن الكريم بصوتٍ عال من راديو سيارته، سرعان ما خفضه عندما لاحظ أننا نضطر للصراخ للحديث بعضنا مع بعض.الشراب مفقود
وقفنا أمام سوق شرق (أحد المجمعات التجارية) لأكثر من 40 دقيقة قبل أن يأتي سونيل من الهند ليقلنا إلى وجهتنا، كان سونيل يشغل الأغاني الهندية بهدوء في سيارته، فاستأذننا ليرفع الصوت، فأذنا له، فحول السيارة إلى ناد ليلي متنقل. كنا نضحك من هول المفاجأة، فسألنا إذا كنا نحب هذه الأغاني أم نود تغييرها للعربية، فقلنا له لا مانع من الاستماع للأغاني الهندية، فراح يتنقل من مطرب لآخر، عبر الطلب من (سيري) تطبيق تلقي الأوامر بالصوت، أن تضع الأغاني الذي يريد، وراح يتغنى بسماعات الصوت التي تصدح في سيارته بأنها من ماركة معروفة. لم يكن لدى سونيل الصبر ليجعل أي أغنية تكمل، فقد كان ينتقل من أغنية إلى أخرى، ثم قرر أن يضع لنا أغاني أجنبية، فقال لسيري بأن تضع أغنية لأكون، المغني الأمريكي، وهكذا كان. سألني سونيل، من أين أنا، فأجبته من البحرين: ”فقال: ”الله البحرين وايد زين، في شراب، هني واجد مشكل، تشرب محلي الشرطة ياخذك وتسفرك الهند“، شاكياً من عدم السماح للمشروبات الكحولية من الدخول إلى الكويت، ومتغنياً بسماح البحرين لها. سائق أجرة أردني، أقلنا للمطار قال لنا إنه موجود في الكويت من قبل الغزو العراقي، وإنه بقي هناك ولم يغادر، برغم تغير الأحوال، وقال إنه كان يقود الشاحنات بين الكويت والدول الخليجية الأخرى، لكنه استقر أخيراً كسائق تاكسي.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...