شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
لا أحد يحب أن يبقى وحيداً

لا أحد يحب أن يبقى وحيداً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 11 ديسمبر 201707:53 م

"الحرب"... "الأزمة"... "الأحداث"...

التقيتها في الشارع بطريق المصادفة، سارة التي لم أرها منذ تخرجنا من المدرسة الثانوية. كانت قد درست في كلية الاقتصاد وهاجرت بعد التخرج مع عائلتها إلى كندا. ونظراً لاختلاف الاختصاص الجامعي لم نعد نلتقي. - كم سنة مرت على لقائنا الأخير؟ - أظن 12 سنة. - من الجيد أننا التقينا، اسمعي، يصادف عيد ميلادي بعد ثلاثة أيام، وأود الاحتفال به مع صديقات الدراسة، أخبرت من استطعت الوصول إليهن، وسأكون سعيدة لو استطعت الحضور، أبلغي من يمكنك التواصل معهن من زميلاتنا. وهذا ما كان، التقينا في منزل سارة. كنا خمس عشرة صبية. استرجعنا ذكرياتنا، وتحدثنا عما مر مع كل واحدة منا خلال 12 عاماً، وخلال سنتين من "الحرب" أو "الأزمة" أو "الأحداث". واتفقنا على لقاءات لاحقة. الفتيات اللواتي درسن الفرع الجامعي نفسه كن على تواصل جيد. ولكن غالبيتهن أخذتهن ظروف الحياة بعيداً، بعضهن أصبحن أمهات - أكثرهن كن كذلك - ومن لم تشغلها الحياة الأسرية شغلتها حياتها المهنية. ولكن هذا الاجتماع الخارج عن الحسبان في منزل سارة قدم لنا كنزاً، وأعاد بناء روابط كنا بأمس الحاجة إليها، نحن اللواتي بقين في سوريا، وبدأن بافتقاد شللهن الأحدث عهداً، وإدراك ما سيفقدنه في الأيام المقبلة. التقينا بعد ذلك أكثر من مرة، وبعض الزميلات حافظن على هذا اللقاء الدوري، وكلما مرت الأشهر كان عددنا ينقص، ومن بقيت كانت تتمسك أكثر فأكثر بهذه اللقاءات التي أصبحت تتخذ طابعاً حميمياً، وانتقلت من مرحلة مشاركة الذكريات إلى مشاركة تجارب التعايش مع ظروف الداخل السوري الصعبة.

واتس أب غروب WhatsApp group

يقضي أبي على الواتس أب وقتاً أكثر من المعتاد، باعتبار أنه لم يكن من أنصار أية وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي، يضحك، يبتسم أو يعبس، وفي أغلب الأحيان يشاركنا ما يقرأ، معيداً علينا كل الأحاديث بسياقتها المختلفة وماذا قال فلان وبماذا أجاب فلان. منذ أن تمت إضافته إلى مجموعة خريجي كلية الهندسة في العام 1979 وهو ينتهز أي فرصة للانشغال بالموبايل. أبي الذي كان يقاطع حتى الرسائل القصيرة، والذي يستغرق رده على رسالة على الفيس بوك أياماً، وجد ما يشغل اهتمامه في مجموعة صداقاته القديمة تلك. نظمت المجموعة عدة لقاءات، شارك فيها جميعها، وكان يعود منها إلينا وهو مشتعل حماسة ليخبرنا بتفاصيل السنوات الماضية التي تشاركها مع زملائه على اختلاف آرائهم السياسية والاجتماعية والدينية.
نردد جملة "الله يفرج" وكأنها تميمة سحرية تحكم الباقي من أيامنا. لا أحد يحب أن يبقى وحيداً...
تخرج من البيت وحيداً، لتنهي يومك وأنت تتناول البوظة في الثانية صباحاً مع عشرة أصدقاء التقيتهم من دون موعد. الآن أخرج من البيت وحيدة وأعود بعيدة، وفي ذاكرتي يسكن مئات الأصدقاء.

أخضر... أزرق... بنفسجي

تنشغل جدتي بمن بقي من إخوتها، تكلمهم يومياً، تزورهم، وتتناسى خلافاتها القديمة معهم، هم الذين كانوا على استعداد لمقاطعة بعضهم بعضاً لأشهر، حتى إذا التقوا بعدها يكونون قد تناسوا السبب الذي كان وراء الخلاف. وتقضي السيدة الثمانينية باقي وقتها في شحذ معارفها التكنولوجية، لتتحدث مع جاراتها اللواتي هاجرن إلى فرنسا وأولاد أخواتها في الإمارات، وأناس من العائلة البعيدة لم يكن يخطر لها منذ سنوات التواصل معهن، على الأخضر (الواتس أب) أو الأزرق (السكايب) أو البنفسجي (الفايبر)، لتعيد ملء فراغات أيامها وعواطفها.

خلاف أفسد للود قضية

تتغير دوائرنا الاجتماعية، نبحث عن صورة من ذهبوا في من لبثوا هنا، نتفحص سجلات الهاتف القديمة التي لم نعد إلى استخدامها منذ أن امتلكنا الموبايل بحثاً عن الأصدقاء والجيران وأفراد العائلة الذين لم يغادروا سوريا. لم يعد باستطاعتنا أن ندعي أن ما فرقنا هو انشغالاتنا، لا، ما فرقنا هو اختلاف موقفنا مما حدث ويحدث، الخلاف في الآراء أفسد للود كل قضاياه. نتجرأ على رفع سماعة الهاتف، نحدثهم ونلتقيهم، نتجنب الكلام في المحظور، لأنه لم يعد بوسعنا تحمل الخلاف والبعد، نردد جملة "الله يفرج" وكأنها تميمة سحرية تحكم الباقي من أيامنا. لا أحد يحب أن يبقى وحيداً. أسأل نفسي مئة مرة عن السبب، هل أصبحنا أكثر تقبلاً للآخر بعد أن وحدتنا المصيبة؟ هل جمعنا ما فرقنا، هل انقلبت شرورنا علينا جميعاً، ومستنا اللعنة، أم ببساطة أنهكنا الحديث عما مضى، واقتنعنا أن ما لا يقال هو غير موجود، فلا أحد يحب أن يبقى وحيداً!

فلافل... شاورما... بوظة

أسير في الشوارع المضاءة وحيدة، أستمتع فقط بكونها مضاءة، أفكر بنعمة الكهرباء التي تجعلني على الأقل استطيع تأمل الوجوه حولي بحثاً عما ينسيني أن الشوارع في مدينتي ما زالت فارغة، باردة، موجعة، مضاءة! كل زاوية تحمل ذكرى لشخص غائب، هنا عند باب سينما الشام كنت أصل وحدي لأجد عشرات الوجوه التي أعرفها، نتبادل التحية مسرعين، "التقيكم بعد الفيلم يا شباب!"، علي الإسراع لإيجاد مكان مناسب! أدخل مسرعة وأجد مكاناً لي وأحجز مكانين لا صاحب لهما، لا تكاد تمضي دقائق حتى أجد صديقين لم أكن بانتظارهما يشغلان المكان. ينتهي الفيلم ونخرج لنلتقي خارجاً، تسير المجموعة باتجاه سينما الكندي مروراً بسينما راميتا، حيث نصادف مجموعة أخرى من الأصدقاء. نستفسر عن الفيلم الذي حضروه، وإذا كانت الانطباعات إيجابية نفتح البرنامج مسرعين لنعرف إذا كان هنالك عرض آخر، نلقي تحيات خاطفة ونتابع مشوارنا. ينتهي الفيلم الثاني وفجأة نجد أنفسنا خارجين من السينما شلةً من عشرة. - فلافل أم شاورما؟ - أنا أريد بوظة! وهذا ما يكون، تخرج من البيت وحيداً، لتنهي يومك وأنت تتناول البوظة في الثانية صباحاً مع عشرة أصدقاء التقيتهم من دون موعد. الآن أخرج من البيت وحيدة وأعود بعيدة، وفي ذاكرتي يسكن مئات الأصدقاء.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image