أين خُطب الرسول؟
من الغريب أن يبقى سؤالٌ كهذا بلا إجابة، على الرغم من مرور مئات السنوات من الجهود الهائلة في تحقيق آثار النبي، تم خلالها النبش عن أصغر تفصيلات دنياه وتأليف آلاف الكتب عن حياته وأفعاله؛ كيف كان يحكم ويحكّم، يحضُّ صحابته على الجهاد ويضاحكهم، يمازح الأطفال ويساعد النساء في البيت، كيف يشرب ويتوضأ ويقضي حاجته، مصير مِكحلته وعباءته وخاتمه وبقايا رسائله، بل وكيف كان يخطب بالمسجد، دون أن تصلنا أيٌّ من خُطَبه! على الرغم من أن "صلاة الجمعة" فُرضت على الرسول في مكة، إلا أنه لم يقمها إلا بالمدينة عقب هجرته إليها (622 م) بعد 13 عاماً من الدعوة داخل أم القرى، وإن كان قد سَبَقه في صلاتها الصحابي أسعد بن زرارة الخزرجي بناءً على أمرِه، في موضع بالمدينة اسمه الهاضمات (رواه ابن أبي داود). وكان ذلك بعدما طالب الأنصار بيومٍ يتجمّعون فيه كل أسبوع ويتعبّدون إلى الله مثلما يفعل اليهود والنصارى، فاختاروا أحد أيامهم المُعظمة وهو "يوم العَرُوبة" الذي كانوا يتقابلون به أسبوعياً ويتناشدون الشعر، ولكن بدّلوا اسمه إلى "الجُمْعة" نسبة لاجتماعهم فيه، وفقاً لما أورده دكتور جواد علي في "المفصل".مسجد الجمعة
أمّا أول صلاة للنبي نفسه، فطبقاً لما ذكره ابن إسحاق في كتابه "سيرة الرسول"، أنه خلال تحركه إلى المدينة أدركته الجمعة عند بني سالم بن عوف فأدّاها بمَن كانوا معه بموضع في بطن وادي رانوناء يوم 12 من ربيع أول، تحوّل الآن إلى جامع فسيح لُقب بـ"مسجد الجمعة" أو "مسجد الوادي"، وهو يتسع لـ600 مصلٍّ. "أحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة". جزء من أول خطبة جمعة للرسول بالمدينة - من "كتاب جمهرة خطب العرب". يقول محمد العمري في كتابه "في بلاغة الخطاب الإقناعي"، إن سبب انتشار هذا الفن في صحراء الجزيرة، يرجع إلى العلاقات التناحرية السائدة في ذلك العصر، لذا اعتُبر القرن الأول العصر الذهبي للخطابة لأنه كان الوسيلة الأكثر تأثيراً في الآخرين، الأمر الذي منَحَ الخطباء مكانة كبيرة فقد كانوا هم زعماء أقوامهم والمتحدثون بأسمائهم في المشاهد الكبرى. ويوضّح الكاتب الصحفي فهد الأحمدي في مقال بجريدة "الرياض" السعودية، أن الرسول عاشَ بالمدينة 10 أعوام آوَت بين أيامها (510 أسبوعاً = 510 جمعة) حرص الجميع على حضورها قدر وسعهم، ورغم ذلك نكاد لا نعرف عن محتواها شيئاً!
كيف تحوّل "يوم العَرُوبة" الذي كان يتقابل به العرب أسبوعياً ويتناشدون الشعر، إلى يوم "الجُمْعة"؟
خطب الرسول بالمسلمين أكثر من 500 خطبة، أين هي هذه الخطب؟ ولمَ نكاد لا نعرف عن محتواها شيئاً؟
لماذا بُذلت جهودٌ كبيرةٌ للعناية بتدقيق أحاديث الرسول، وبالمقابل، لمْ يكن هناك أي محاولات لحفظ خطبه؟وعلى النقيض، فقد بُذلت جهودٌ كبيرةٌ للعناية بتدقيق أحاديث آحاد سَمَعها ثلاثة أو اثنين أو حتى واحد دون غيرهم عن الرسول فأصبحت تشريعاً يُتلى إلى قيام الساعة يتعبد بها الملايين حول الأرض، حتى لو كانت تحكي عنه موقفاً دنيوياً لم يأمر النبي فيه أحداً بوجوب اتباع ما يفعله، لم تنل نفس العناية الخطبة التي أُلقيت من فوق المنبر للمصلين يوجه لهم خطاباً دينياً مباشراً مفترضٌ أن يكون نموذجاً لما يكون عليه الخبر المتواتر الصحيح الذي تُبنى عليه الأحكام والعبادات. وباستثناء خطبة الوداع، لم تنقل لنا كتب الأخبار من بقية الخُطَب إلا شذرات، بالرغم من تأسس الفقه الإسلامي على قاعدة صلبة مفادها أن الصحابة نقلوا إلينا كل "سُنّة" الرسول، بفضل ما حباهم به الله من ذاكرة جهنمية لا تنسى مطلقاً.
حلية (وصف للنبي محمد) بيد الخطاط حافظ عثمان أفندي (1642-1698)
الرسول خطيباً
استعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي فلم ينطق إلا ميراث حكمة، هكذا كتب الجاحظ يصف خطاب الرسول. لم يُعرف عن النبي ممارسته للخطابة قبل تكليفه بالبعثة، وربما كان لاعتزاله معارك قومه وترفعه عن الخوض في عصبياتهم دورٌ في هذا، فلم تسجّل المرويات له خطبة واحدة قبل رسالته، وإنما كانت أولى مقالاته على الملأ حين أتاه الأمر بالجهر بالإسلام عقب 3 أعوام من الدعوة سراً فخطب بقومه من فوق "الصفا"، ومن بعدها تعددت المناسبات التاريخية المُستدعية لخُطب لم تعجز بلاغة الرسول عن سردها بأساليب شتى. يقول الباحث عبد الملك بن سالم في رسالة الماجستير التي أقرّتها الجامعة الأردنية في "المرويات عن النبي" إن من أهم سمات خطاب الرسول، اختصاره الشديد فكان يقتصر على كلمات يسيرات، ما يتفق وهَدْي الحديث الشريف "أطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة" (رواه مسلم). بالإضافة لكثرة تكراره للكلام كي يُفهم ويحفظ. تقول السيدة عائشة، إن النبي لم يكن يسرد الحديث كسردنا، وإنما "كان كلاماً فصلاً يبينه، يحفظه كل من سمعه" (بحسب البيهقي)، ويضيف جابر بن عبد الله، واصفاً كلماته بأنها "ترتيل أو ترسيل" (رواه أبو داوود)، بمعنى عدم العجلة في الحديث والبطء به. فيما يضيف ابن القيم في كتابه "زاد المعاد"، أن خطبته كانت تقريراً لأصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه وذِكر الجنة والنار وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، مضيفاً أنه كان يقف على الأرض أو المنبر أو البعير أو الناقة، وكان إذا خطب، احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه. كان لا يخطب إلا قائماً (كما ورد في صحيح مسلم)، وبالمناسبات الكبرى يرتدي بُرْدة حمراء (بحسب البيهقي). في أولى أيامه بالمدينة كان يستند إلى جذع نخلة من سوار المسجد، ثم صُنع له منبراً خشبياً بدرجات ثلاث. إذا تكلم في الحرب خطب على قوس وإذا خطب في الجمعة اعتمد على عصا (من سنن ابن ماجه).الرد الكلاسيكي
في إحدى محاضرات الشيخ صالح السحيمي، أستاذ أصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، يسأله سائل "أين خُطب النبي؟" فأجابه "لا أدري"! الرد الكلاسيكي عند العلماء القلائل الذين تناولوا هذه النقطة، أنّ خُطب الرسول كانت قصيرة جداً، يكتفي فيها ببعض الحكم الحياتية، انتقى منها الصحابة ما اعتبروه مهماً فقط ونقلوه لنا منه سطراً أو اثنين في كتب الأحاديث، ويضيفون للعملية بُعدًا قَدَريًا بأن الله تعهّد بـ"حفظ ذِكره" شاملاً القرآن والسنة، ما يجعل كل ما بَلَغنا من الخُطَب هو ما أرادته المشيئة الربانية لنا أن يصل. ويضيف الباحث الإسلامي عدنان إبراهيم في إحدى حلقات برنامجه "صحوة" على قناة روتانا، أن النبي في بعض الأحيان كان يقتصر على قراءة القرآن فقط يوم الجمعة، مستدلاً بما ورد بصحيح مسلم عن بنت حارثة بن النعمان، حين قالت: "ما حفظت (ق) إلا من فِيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخطب بها كل جمعة". يقول الشيخ الأزهري خالد الجندي في إحدى حلقات برنامجه التليفزيوني "الدين والحياة"، إن خطبة النبي لم تحتل أهمية قصوى عند المستمعين تجعلهم يهتمون بحفظها، ضارباً المثل بما حدث في إحدى "الجُمع" حين انفضَّ الصحابة عن المنبر خلال خطبة الرسول كي يلحقوا بقافلة زيت تجارية آتية من الشام، فغضب النبي وتغير بسبب ذلك نظام الصلاة، فبعدما كانت مثل "العيد"؛ ركعتان أولاً ثم خطبة تم عكس الحَدَثين كي لا يتكرر هذا الموقف مرة أخرى.أين الأسرار الكبرى؟
هذا التبرير من السهل ضحده، بأن خُطب الرسول لم تكن كلها مناسباتية مرتبطة بحدث معين أو دعوة تحضُّ على فِعل الخير وكراهة الموبقات. ولكن المرويات حفظت لنا ما قاله عمر عن خُطبة "دُرية" حُكِي بها تفاصيل "بدء الخلق" (رواه البخاري)، وما قاله حذيفة بن اليمان عن مقامة الرسول فيهم التي لم يترك فيها شيئاً سيحدث حتى قيام الساعة إلا وأخبرهم بها في حديث "حفظه من حفظه ونسيه من نسيه"، وحديث أبي ذر في "مسند أحمد"، أن الرسول لم يرحل عنهم إلا وذكر عن كل شيء في حياتهم، حتى "الطائر في السماء"، فأين ذهبت كل هذه الأنباء؟ اتسقت كلمات الرسول مع التدرج في الوحي القرآني من المرحلة المكية للمدينة، فاعتمد في مرحلته الأولى على الاكتفاء بإيضاح أصول الأخلاق وتكريه الكفر والفسوق والعصيان، وتحبيب الإيمان والتقوى، مع الاهتمام بقضايا العقيدة والجدال وفقاً للبراهين العقلية والآيات الكونية، لذا بدأ خطبة "الإنذار" الأولى بمكة قائلاً: "هل سمعتموني ذات يوم أقول كذباً؟.. أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل أصدقتمونني؟" ثم أضاف "إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة .. وإنها لجنة أبداً أو لنار أبداً". أما المدني فهو بيان للعبادات والمعاملات والأحكام الفقهية، وفضح سلوكيات المنافقين وحقدهم على المؤمنين، ومخاطبة أهل الكتاب، والحديث عن فضائل العبادات. وهنا مقتطفات منها: "أيها الناس، فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله، ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه، ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه –ليس له ترجمانٌ، ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي، فيبلغك"؛ يخطب بأهل المدينة في أول أيامه بها – كما وردت في "فتح الباري" لابن رجب.من خطب الرسول: "إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم خُلق من تراب"
"أبلوا ربكم في هذه المواطن أمراً تستوجبوا الذي وعدم به من رحمته ومغفرته، فإن وعده حق، وقوله صدق، وعقابه شديد، وإنما أنا وأنتم بالله الحي القيوم، إليه ألجأنا ظهورنا"؛ يحث أصحابه على الجهاد بغزوة بدر – كما ورد في "إمتاع الإسماع" للمقريزي.
"ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج (..) يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم خُلق من تراب"؛ يوم فتح مكة – من "جمهرة خطب العرب".
"أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا"؛ جانب من خطبة الوداع – من "خطب الرسول" لمجدي الشهاوي.
"إنه قد دنا منّي خفوق من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه (..) إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده"؛ آخر خطبة ألقاها النبي قبل موته – من تاريخ الطبري.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 12 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت