منذ عام تقريباً، فوجئ أهالي جنوب الشيخ زويد بأحد المسلحين يدخل أحد أسواق المدينة لشراء بعض الحاجيات. تحدث مع بعض البائعين عن التنظيم الذي ينتمي إليه، معدداً مساوئ "ولاية سيناء" في استهداف "المدنيين والأبرياء"، ومقارناً أفعالها بأفعال جماعته التي لا تشتبك إلا مع "أعداء الدين". قال: "نحن من جند الإسلام، وجئنا ننهي معاناتكم"، يحكي حسن مرزوق، أحد أهالي شمال سيناء.
عاد تنظيم جند الإسلام للظهور مجدداً منذ أيام، وتحديداً بعد مذبحة مسجد الروضة في منطقة بئر العبد، ببيان يعلن فيه "براءته واستنكاره" للحادث، معزياً أهالي وذوي الشهداء والمصابين، ومؤكداً حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، ليوجّه الأنظار نحوه مجدداً بعد فترة طويلة من الكمون.
يوضح مرزوق لرصيف22 أن "جند الإسلام" ظهر أيضاً في مناطق أخرى بمنطقة رفح، وكان يتحدث مع الأهالي بشكل فردي، ويبدي حرصه على عدم التواصل مباشرة مع القبائل، إذ ما يزال تنظيماً مغلقاً على نفسه يستبعد ضم عدم الموالين له تخوّفاً من محاولات اختراقه.
خريطة الإرهاب في سيناء... القاعدة تعود إلى الصورة
بعد عام 2011، التحق مسلحون فلسطينيون بجماعة "التوحيد والجهاد" في سيناء، وشكلوا جماعة "أنصار بيت المقدس"، ونفّذوا عدداً من العمليات الإرهابية على نطاق متفاوت، قبل أن تتغوّل الجماعة شيئاً فشيئاً لتضم معظم الكيانات الإرهابية في المنطقة، من "أكناف بيت المقدس" وجماعات السلفية الجهادية، وتعلن بيعتها لتنظيم داعش، وتصير "ولاية سيناء". يقول الباحث في شؤون الحركات الإسلامية والإرهاب الدولي منير أديب لرصيف22 إنه منذ تلك الفترة وحتى وقت قريب، كان التنظيم الجديد الذي يضم عناصر فلسطينية وعناصر من محافظات مصرية مختلفة مسيطراً على المنطقة بشكل شبه كامل، وتحديداً منذ منتصف 2014، بعد انضواء جميع الحركات التكفيرية في سيناء تحت لوائه. ولم يخرج عن هذا التوافق سوى جماعة "المرابطون" التي أسسها ضابط الصاعقة السابق هشام العشماوي الذي واصل ولاءه لتنظيم القاعدة، وانتقلت جماعته إلى الصحراء الغربية مكونة خلايا تنفّذ عملياتها الإرهابية في الجانب الغربي من مصر، تاركة سيناء ومحيطها تحت السيطرة التامة لأنصار أبي بكر البغدادي. بحسب أديب، لم يؤثر هذا الانشقاق كثيراً على تواجد التنظيم في مسرح عملياته، خاصة أن "المرابطون" غير مشتبكين مع عناصر داعش لاختلاف منطقتي سيطرتهما. إلا أن انسحاب "جند الإسلام" بعد فترة وإعلانه البقاء في سيناء أربك المعادلة كثيراً في الفترة الأخيرة، خاصة مع تواجد التنظيمين في المكان ذاته، واعتبار "ولاية سيناء" الكيانات المنشقة "خارجة عن الجماعة" ويجوز قتالها وتصفيتها وفق أيديولوجيا التنظيم. فمنذ بداية تشكيلها، استهدفت "ولاية سيناء" التكفيريين الرافضين الانضمام إلى الكيان الجديد. ويوضح أديب أن المعلومات المعروفة عن التنظيم الذي انشق عن تنظيم القاعدة وعاد إلى حضنه مجدداً تنحصر في عملية وثلاثة بيانات وتسجيلين، أولها في 12 سبتمبر 2013، حينما تبنى عملية استهداف مبنى المخابرات الحربية في رفح، ونشر بياناً بذلك على منتدى "شموخ الإسلام" القريب من تنظيم القاعدة. وفي أغسطس 2015 أخرج إصداراً يستعرض فيه قدراته العسكرية وتدريباته والكمائن التي ينصبها في سيناء، مستعيناً بكلمة لزعيم القاعدة أيمن الظواهري. عاد بعد شهرين من ذلك بتسجيل لكلمة هشام عشماوي بعنوان "لا تهنوا"، ثم ببيان يدعو منظري السلفية الجهادية إلى التنسيق بين الفصائل المقاتلة في سوريا، ثم ببث مقطع فيديو لاستهداف إسرائيل بصاروخ غراد، في إصدار بعنوان "سبيل العزة"، وصولاً إلى بيانه الأخير الذي أعلن فيه استهداف عناصر من داعش. يُرجع منسق عام قبائل شمال سيناء وأبرز شيوخ قبيلة السواركة، د. نعيم جبر، ظهور "جند الإسلام" إلى أواخر 2008 وتحديداً في قطاع غزة، على يد عبد اللطيف موسى الذي يُكنّى بـ"أبي النور المقدسي"، حينما دكّت حركة حماس "مسجد ابن تيمية" في رفح عليه وعلى عدد من الموالين له، بعد إعلانه غزة ورفح "إمارة إسلامية" تابعة لتنظيم القاعدة، ما دفع هذه العناصر للنزوح إلى سيناء بحثاً عن موطن أكثر هدوءاً، لاستعادة نشاطها، وهو ما حدث بعدها بسنوات. ويضيف جبر لرصيف22 أن سلاح الجماعة كان موجهاً إلى إسرائيل ورعاياها في طابا ونويبع في أغلب الأحيان، قبل أن يتردد اسمها على فترات متباعدة، بنصبها كمائن لمحاربة تهريب السجائر والمخدرات، والتشديد على ارتداء الملابس الإسلامية.داعش والقاعدة في سيناء... وصلت ذروة الصراع بين التنظيمين إلى حد إعلانهما قتل عناصر من الجانب الآخر علناً
بعض أهالي سيناء لا يستطيعون حتى الإبلاغ عن وجود الإرهابيين بسبب الانقطاعات المتكررة للكهرباء ولإرسال شبكات المحمول
انشقاق "الكيان الموحد" يشعل حرب الإخوة الأعداء
وصلت ذروة الصراع بين التنظيمين إلى حد إعلانهما قتل عناصر من الجانب الآخر علناً. وفي آخر الوقائع ذات الصلة، نشر "جند الإسلام" تسجيلاً صوتياً لعملية استهداف مسلحين من "ولاية سيناء" في 11 أكتوبر الماضي، واصفاً إياهم بـ"خوارج البغدادي"، وداعياً العناصر الباقية في التنظيم للتوبة والانشقاق عن الكيان الذي "فرّق المسلمين". يرى أديب أن انشقاق جند الإسلام عن "ولاية سيناء" سببه استياء عناصره من لغة الاستخدام المفرط للقوة، في ظل سيطرة التيار الحازمي على مراكز صنع القرار داخل التنظيم. فهذا التيار يرفض تطبيق قاعدة "العذر بالجهل"، التي توجب عدم معاقبة المدنيين على عدم تطبيقهم الدين، مفضلاً السير على نهج جماعة التكفير والهجرة في السابق. ويوضح انشقاق "جند الإسلام" أن هناك عناصر داخل "ولاية سيناء" يختلفون مع نهج قتل عوام المسلمين من رجال ونساء وأطفال، والاعتداء على حرمات المساجد، واستخدام أكثر الأساليب بشاعة في القتل، مثل الحرق والتصفية الجسدية والذبح، كما يرفضون التنكيل بالخصوم، وهو ما يراه الحازميون "تساهلاً في تطبيق المنهج". الجماعة التي تضم خليتين أو ثلاث، معظم عناصرها منتشرون على الشريط الحدودي مع قطاع غزة بين رفح والشيخ زويد، حيث تكمن قوتهم، بحسب أديب، تركت قلب سيناء لعناصر داعش في السابق. ومع رفضها جنوحه إلى العنف بالشكل الذي يخرجه من "رفقة الإسلام"، حسب منهج "القاعدة"، آثرت البقاء في المنطقة وتوسيع مساحة تواجدها، خاصة مع تزايد عدد عناصرها يوماً تلو الآخر باستقطاب المنشقين عن "ولاية سيناء".حلم الظواهري لاستعادة "المجد الزائل"
يؤكد عضو المجلس القومي لمكافحة الإرهاب العميد خالد عكاشة، أن ظهور "جند الإسلام" على الساحة دلالة على إطار الصراع بين التنظيمات الداعشية والقاعدية في أكثر من مكان، ويتوقّع أن تظهر قدرته الحقيقية على مواجهة التنظيم خلال الأيام القريبة القادمة. ويوافقه أديب على ذلك، مشيراً إلى أن تهاوي مملكة داعش بعد نحو أربع سنوات من تصدره "العمل الجهادي" في العالم، دفع تنظيم القاعدة إلى السعي لاستعادة قوته وعناصره التي سلبها منه أنصار البغدادي، فبدأ أيمن الظواهري بلم شمل فلوله مجدداً في جميع الأقطار. تراجع داعش أسال لعاب "جند الإسلام" نحو السعي إلى وضع قدم على خريطة القتال في سيناء، مستغلاً الضربات التي يوجهها الأمن ضد عناصر "ولاية سيناء"، ما يفسح المجال أمامه للانتشار، واستغلال المزيد من الانشقاقات، خاصة مع طموحه الكبير لحجز مكان مميز في قائمة التنظيمات الموالية للقاعدة. وتزامن تصاعد أسهم جند الإسلام أيضاً مع اندماج جاماعات إمارة منطقة الصحراء، والمرابطون، وأنصار الدين، وكتائب ماسينا، الموالية للقاعدة في مالي ومنطقة الساحل، مطلع العام الماضي، في كيان تحت اسم "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، بقيادة إياد غالي، معلنة مبايعتها الظواهري، فضلاً عن تسجيل زعيم القاعدة الأخير الذي دعا فيه الفصائل السورية للتوحد تحت راية تنظيمه.ترغيب وترهيب... أهالي سيناء تحت مقصلة "التكفيريين"
يرى أمين حزب الكرامة في شمال سيناء وأحد شيوخ قبائل العريش خالد عرفات أن التنظيمين ليس لهما وجود واضح في شوارع سيناء، فهما ينفّذان هجماتهما بأسلوب المفاجأة. "لا بنشوفهم لما ييجوا ولا بنشوفهم لما يهربوا"، ثم يعودون أدراجهم في الدروب الصحراوية خوفاً من التعقب الأمني. فمعظم مساحة سيناء فراغ هائل من السهل الاختباء خلف جبالها وهضابها. ويلفت عرفات إلى أن المتطرفين يغيّرون أماكن تواجدهم في عملية ترحال مستمرة، تجنباً لرصدهم من قبل الأهالي أو الأمن. ويؤكد لرصيف22 أن داعش و"جند الإسلام" يسعيان إلى التأثير على أبناء القبائل بأسلوب "الترغيب والترهيب". فبينما يجنح الأول إلى التنكيل بالأهالي والمواطنين الرافضين التعاون معه، يلجأ الثاني إلى استمالتهم ببياناته، مدّعياً وقوفه في صفهم وحرصه على الحفاظ على أمنهم وعدم استهدافهم. على الرغم من ذلك، يشير أبرز شيوخ العريش إلى أن تماسك الجبهة الداخلية في سيناء من قبائل وعائلات وعشائر يمنع أبناء سيناء من المنضمين إلى التنظيمات الإرهابية من الإعلان عن أنفسهم صراحة، إلا المعروفين منهم،، خوفاً من تسبب هذا الأمر في مشاكل للقبيلة. لذا فإنهم يحرصون على الظهور ملثمين خلال تنفيذ عملياتهم أو بحال تواجدهم في الشوارع. ويشرح خالد عكاشة أن "جند الإسلام" عاد إلى منطقة الصراع في سيناء لاستغلال انحسار داعش على الأرض وكسب المزيد من الداعمين، إذ يسعى إلى تقديم نفسه مرة أخرى كنموذج لـ"التكفيريين المعتدلين" في محاولة لاستمالة أهالي سيناء وكسب تعاطفهم معه في مواجهة عناصر البغدادي. وتابع: "شيوخ القبائل وأهالي سيناء يتواصلون مع قوات الأمن للتنسيق والإبلاغ عن عناصر التنظيمين، ومن المقرر أن تشهد آلية المساعدة تطوراً ملحوظاً في الفترة المقبلة، خاصة أن عدداً من عناصر هذه التنظيمات وقيادات رئيسية فيها من أبناء هذه القبائل".مواجهة الإرهاب بالإرهاب... هل تنجح حيث فشلت الأنظمة؟
يرى منير أديب أن على المجتمع الدولي بأنظمته السياسية استثمار الخلافات العقائدية بين الجماعات التكفيرية، وتغذيتها ليقضي بعضها على بعض، ليتزامن ذلك مع المواجهة الأمنية والعسكرية والفكرية. وبينما يتيقن الشيخ خالد عرفات من أن إرادة أهالي سيناء سوف تنتصر على هذه الجماعات في النهاية، مستغلة عوامل الجغرافيا والظروف والوقت في صالحها، يؤمن أن الأمر لن يخلو من معاناة كبيرة لتحقيق هذا الهدف، فيما يرى نعيم جبر أن بعض الأهالي لا يستطيعون حتى الإبلاغ عن وجود هذه التنظيمات لمواجهتها، بسبب الانقطاعات المتكررة للكهرباء ولإرسال شبكات المحمول، وهو ما يصعّب مهمة الوصول إلى المسؤولين لتنبيههم. يقول جبر: "الأهالي بذلوا ما في وسعهم، والرئيس عبد الفتاح السيسي كلف رئيس الأركان ووزير الداخلية بإعادة الاستقرار إلى سيناء خلال ثلاثة أشهر. نحن في انتظار تنفيذ هذا الوعد وإلا ستستمر معاناة أبنائنا أكثر مما نتصور".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...