لم يكن عبد الرحمن أبو ملحوس يعلم أن فراره من جحيم الإرهاب بمدينة الشيخ زويد الحدودية إلى قرية الروضة ببئر العبد سيكلفه عمره، إذ طالته هناك إحدى شظايا عبوات التفجير الذي استهدف مسجد آل جرير الصوفي.
انتقل أبو ملحوس بصحبة أسرته إلى الروضة قبل 3 سنوات، بحثاً عن حياة مستقرة وسط قبيلة السواركة وأبناء الطريقة الجريرية الصوفية، وهرباً من العمليات الإرهابية الكثيرة التي كانت تطال مكان سكنهم السابق في الشيخ زويد.
لم يكن اختياره موفقاً، إذ فارق الحياة هو و303 أشخاص خلال تأدية صلاة الجمعة بأكبر مساجد المدينة، في أكبر عملية إرهابية تشهدها مصر في تاريخها.
أبو ملحوس ضمن كثيرين فروا من منطقتي الشيخ زويد ورفح إلى قرية الروضة، التي تتبع إدارياً مركز بئر العبد في شمال سيناء، للاحتماء بقبيلة السواركة التي يشارك أبناؤها في حرب الجيش المصري على تنظيم ولاية سيناء.
تقع الروضة على بعد 20 كيلومتراً من غرب العريش، ويبغ عدد سكانها قرابة الـ2000 أسرة، غالبيتهم من قبيلة السواركة وخاصة عشيرة الجريرات التي تنتمي للطريقة الجريرية الأحمدية الصوفية.
"لن نترك غير الموحدين فى المنطقة"، "هذا جزاء من يهين المجاهدين" هتافات سمعها محمد أبو سلمان، أحد سكان الروضة، من العناصر المتطرفة التي جابت قريتهم على عربات دفع رباعي رافعين أعلام داعش السوداء بعد تفجير المسجد وإمطار المصلين الفارين منه بالرصاص.
يروي أبو سلمان لرصيف22، أن العملية استغرقت 30 دقيقة منذ بداية خطبة الجمعة وزرع القنابل في محيط المسجد، قبل أن يبدأ المهاجمون في إطلاق الرصاص على المصلين الذين حاولوا الفرار، وسط صراخ وبكاء الأطفال والشيوخ الذين سقطوا بإصابات متفرقة في أجسادهم، وهرولة النساء في الممرات الجانبية.
شارك أبو سلمان مع شباب القرية الصغيرة والمتطوعين السيناوية في نقل المصابين إلى مستشفيات بئر العبد والعريش والإسماعيلية، يقول: "الإسعاف وصلت بعد فترة، وأبقت على الجثث داخل المسجد، المشهد كان موحشاً لا يتخيله أحد، اختلطت الدماء بوجوهنا وجلابيبنا كأننا نذبح في الأضاحي".
أحمد عطية كان ضمن المتطوعين الذين أتوا من العريش للتطوع في نقل الجرحى والاطمئنان على حالة أقاربه وأصدقائه بالقرية. يقول لرصيف22: "الوضع كان صعباً على الجميع، كل فرد في المجتمع السيناوي فقد قريباً أو صديقاً، الهواتف كانت لا تتوقف لمعرفة مصيرهم".
كان المساء أكثر كآبة على قرية الروضة، فرائحة الدم تملأ جنباتها، والأهالي يدفنون شهداءهم في الظلام، فيما وقف كبارها بعيون يملأها الحزن يتلقون العزاء من سكان القرى المجاورة بشمال سيناء، حسبما يوضح عطية الذي قضى ليلته بين أهالي الروضة.
يشير عطية إلى أن معظم الضحايا من الصوفيين التابعين للجرايرة باستثاء من قادهم القدر للصلاة في هذا المسجد، ما قد يدل على أن التنظيمات الإرهابية بدأت الحرب الفعلية على الطرق الصوفية في سيناء.
"تلقينا تحذيرات في الأشهر الأخيرة من التنظيم بعدم إقامة الموالد والاحتفالات قرب المساجد والأضرحة، لكن الأهالي لن يمتنعوا عن الصلاة" يقول عطية.
المشهد كان موحشاً لا يتخيله أحد، اختلطت الدماء بوجوهنا وجلابيبنا كأننا نذبح في الأضاحي، يقول أحد سكان قرية الروضة التي استهدفتها أكبر عملية إرهابية تشهدها مصر في تاريخها
عملية مسجد الروضة اعتبرت تصريحاً رسمياً باندلاع حرب طائفية بين تنظيم ولاية سيناء وأتباع الطرق الصوفية
عملية مسجد الروضة اعتبرت تصريحاً رسمياً باندلاع حرب طائفية بين التنظيم المتشدد وأتباع الطرق الصوفية، وهي ليست الحادثة الأولى، إذ اغتيل الشيخ سليمان أبو حراز، شيخ الطريقة الجريرية الذي يبلغ من العمر 98 عاماً، في نوفمبر من العام الماضي، أمام منزله بحي المزرعة جنوب العريش.
حينها وصفه تنظيم ولاية سيناء، على لسان أحد قياداته، في مجلة "النبأ" الإلكترونية التابعة للتنظيم، بأنه أمير الحسبة في ولاية سيناء، مفسراً ذلك: "ديوان الحسبة يمارس نشاطه ووظيفته على أرض الواقع، ولقد انتشر الشرك بالله في الطرق الصوفية بشكل كبير، حتى هرم عليه الكبار، ونشأ عليه الصغار، فاشتدت المصيبة، وهم يعتقدون النفع والضرر في الأموات، ويستغيثون بهم، ويتخذونهم وسائط إلى الله، كما يتبعون طواغيتهم وشيوخهم في باطلهم ويؤدون لهم السمع والطاعة في القول والفعل".
وبحسب أحد قيادات تنظيم ولاية سيناء، فأتباع الطريقة الجريرية يقدسون الأضرحة، ويقرأون كلاماً يحتوي على ألفاظ شركية، مثل الاستغاثة بالنبي وطلب الشفاعة، كما أن مشايخ الصوفية على علاقة “بأجهزة الدولة الكافرة، ومنهم سليمان أبو حزار الذي يحمل لقب شيخ وهو دجال”.
تعرف الطريقة الجريرية، نسبة إلى شيخها عيد أبو جرير، الذي ينتمي إلى قبيلة السواركة، بأنها أقدم الطرق الصوفية في سيناء. بدأت ببناء زاوية صوفية في مدينة الطور، ثم أنشأت دار تحفيظ القرآن الكريم وتعليم أصول الدين، وتوسعت ببناء 200 مسجد في سيناء.
وللشيخ عيد أبو جرير الكثير من المريدين في سيناء وفي محافظات أخرى، إلا أن قرية الروضة تعتبر المقر الرئيسي لعشيرة الجريرات.
وبحسب التقديرات الأهلية، تصل نسبة المنتمين إلى الطرق الصوفية في سيناء إلى نحو 60% من السكان، أكثرهم انتشاراً على الإطلاق الطريقة الجريرية الأحمدية، تليها الطريقة العلاوية والشاذلية.
"شواهد التصعيد ضد الصوفيين موجودة ومتعددة، وتفجير مسجد الروضة لانتماء أهل القرية إلى الجرايرة وليس لأنهم سواركة فقط"، يقول الناشط السيناوي مصطفى سنجر لـرصيف22.
يرصد سنجر بداية التصعيد الإرهابي ضد الطرق الصوفية في 2011، بتفجير أضرحة عدة بالشيخ زويد، ثم تفجير 5 أضرحة تباعاً أعوام 2013 و 2016، منها 4 فى قرية مزار المجاورة لقرية الروضة وضريح فى المغارة بوسط سيناء.
يتابع: "تم اختطاف 7 رموز للصوفية العام الماضى وطلب منهم منع الحضرات والمظاهر الصوفية جنوب رفح والشيخ زويد وإغلاق الزوايا الخاصة بالصوفيين، الأمر الذى أدى إلى إغلاق غالبية الزوايا الصوفية جنوب الشيخ زويد ورفح، عدا زاوية ومسجد قرية الجورة التابع للطريقة الأحمدية العلوية”.
ويرفض كثير من السيناوية الربط بين استهداف ولاية سيناء للصوفيين واشتراكهم في حرب القبائل ضد التنظيمات الإرهابية، إذ يقول العرايشي أحمد عطية إن الصوفيين لم يشاركوا بالأساس في جمع أي معلومات عن التنظيم، مؤكداً أن الصوفية لم تتورط في نزاع مع أفراد التنظيم.
وبرأي الناشط السيناوي مسعد أبو فجر، فإن قوات الجيش لم تستعن بالصوفيين أو غيرهم من القبائل بل بالبدو الصادرة ضدهم أحكام غيابية من القضاء، بسبب شعور القبائل بالتهميش والظلم منذ سنوات طويلة.
يوضح أبو فجر: "أي مواطن عادي سيطالب بحقوقه بعد انتهاء المعركة مع الإرهاب. لكن المطاريد يشاركون كي ينالوا ثقة الحكومة".
تختلف قراءة تفجير الروضة من المجتمع البدوي إلى الصوفي، فعلى الرغم من إعلان اتحاد قبائل سيناء الحرب على تنيظم ولاية سيناء، وبداية نصب المتاريس على مداخل بعض القرى للثأر لضحايا قرية الروضة، فإن الصوفيين لا يأبهون كتيراً بمثل هذه التطورات في المواجهة مع أنصار الأفكار المتشددة.
يقول علاء الدين أبو العزائم، رئيس الاتحاد العالمي للطرق الصوفية، إنهم اعتادوا على تكفيرهم من قبل السلفيين المتشددين، لكن الهدف من التكفير الآن ليس الهداية بل القتل.
يضيف أبو العزائم: "الصوفيون لا يملكون الأسلحة ومسالمين طول الوقت، نقيم صلاواتنا ونتبارك بالأضرحة لكن ما يحدث هو إجرام لتهجيرنا من سيناء".
ورفض شيخ الطريقة العزمية انتقال فكرة الخوف من زيارة الأضرحة إلى القاهرة والأقاليم، لأن سيناء تتفرد بطبيعة خاصة بحكم الصراع المسلح بين قوات الجيش والتنظيمات الإرهابية.
وبرأي سامح عيد، الباحث المتخصص في شؤون الحركات المتطرفة، فإن الاعتداء على المصليين الصوفيين له أبعاد قبيلة، لكونها تنتمي إلى قبيلة السواركة التي تقدم معلومات ضد التكفيريين.
ويقول: "الصوفيون مسالمون ولن ينجروا إلى معارك مع المتشددين، لكن لو كان الاستهداف قبلي فستتوسع دائرة العنف وتتحول إلى حرب شعبية، وعلى الدولة التدخل لمنع أي انزلاق إلى الفوضى".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...